القضاء الدولي ... ولحظة انتعاش فارقة!
ليس من المبالغة في شيء القول إن عام 2024 يشكل علامة فارقة بالنسبة للقانون الدولي وبالنسبة للقضاء الدولي، الذي يشكل أحد أهم أذرع القانون الدولي، وإن لم يكن أقواها، وذلك بفعل عوامل تحد كثيرا من قدرة وفاعلية القضاء الدولي وقدرته على التأثير في مجريات الأحداث والتطورات والمشكلات التي تفرض نفسها على المجتمع الدولي وعلى مؤسساته التي عانت طويلا من الضعف ومن عدم اهتمام مؤسسات النظام الدولي الأخرى بها.
وإذا كانت إسرائيل قد اكتسبت صفة «الدولة الخارجة عن القانون الدولي» بسبب كثرة تمردها أو عدم التزامها بالقرارات الدولية، لتمتعها بالحماية والدعم الأمريكي القوي والمتواصل ضد أية إدانة من جانب مؤسسات النظام الدولي، وفي مقدمتها مؤسسات الأمم المتحدة، فإنه ليس مصادفة أن يفيق العالم في الأشهر الأخيرة على وقع تعرض إسرائيل لإدانات متكررة من جانب أكثر من مؤسسة من مؤسسات الأمم المتحدة، وخاصة تلك التي تضم معظم أعضاء المجتمع الدولي مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تضم نحو 198 دولة ومحكمة العدل الدولية التي تمثل صوت القانون في الأمم المتحدة وضمير المجتمع الدولي الذي يسعى إلى إعلاء صوت الحق والقانون وينحاز إلى رعايتها ضد كل محاولات المساس بها بشكل مباشر أو غير مباشر. ولعل ذلك هو سبب الضجة التي يعيشها العالم في الأيام الأخيرة بعد تعرض إسرائيل لإدانات صريحة ومباشرة لم تتعرض لها على هذا النحو من قبل بسبب الحرب على غزة والممارسات التي تنتهك القانون الدولي وتصل إلى الإبادة الجماعية في غزة منذ حرب السابع من أكتوبر الماضي والوحشية الإسرائيلية وما ترتب عليها من تخريب وقتل ممنهج ومتواصل للمدنيين الفلسطينيين الأبرياء، واستخدام وسائل التجويع والحرمان من أبسط أساسيات الحياة والضغط الخشن عليهم لإجبارهم على الرحيل القسري من أراضيهم استنادا إلى مبررات لا تقوى على المناقشة الموضوعية بشكل أو بآخر، وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب ، لعل من أهمها: أولا،إنه من الواضح إلى حد بعيد أن إسرائيل، بكل قطاعات مجتمعها بدأوا يستشعرون خطورة تصعيد الخلافات بين إسرائيل وأكبر داعميها، أي الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه برغم محاولات التخفيف المتعمد من تأثير الخلافات بين بايدن ونتانياهو، والتأكيد على أن الدولتين قادرتان على معالجة خلافاتهما وراء الأبواب المغلقة، إلا أن تصريحات نتانياهو وبعض وزراء حكومته لم تنجح سوى في زيادة التباعد بين واشنطن وتل أبيب وعلى نحو هز ثقة الجمهور الإسرائيلي في إمكانية الاستمرار في الاعتماد على الدعم الأمريكي لمساندة إسرائيل، وهو ما ظهر في أكثر من استطلاع رأي نشر في الأيام الأخيرة في إسرائيل من جانب آخر فإنه برغم التأكيدات الأمريكية رفيعة المستوى على استمرار الدعم الأمريكي لإسرائيل وعدم تغير السياسة الأمريكية، إلا أن الواقع على الأرض أخذ يطرح نتائج وسلبيات لا يمكن لإسرائيل إلا أن تضعها في الاعتبار بشكل جاد خلال الأسابيع القادمة، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار (1) أن الأعمال والممارسات الهمجية الإسرائيلية خاصة منذ السابع من أكتوبر الماضي أفقدت إسرائيل الكثير من صورتها المزيفة السابقة بما في ذلك قدر مهم من التعاطف الذي كانت تتمتع به دوليا، خاصة وأنه صاحب ذلك ظهور جوانب لم تكن واضحة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من قبل، مع انكشاف وحشية التعامل الإسرائيلي والارتفاع المخيف في أعداد الضحايا الفلسطينيين (شهداء وجرحى) والاستهداف المتعمد للأطفال والنساء، ولم يكن مصادفة أن يجد ذلك كله صداه في الجامعات وأوساط الطلاب في الجامعات الأمريكية والأوروبية وفي العديد من دول العالم وهو ما زاد من القلق في الأوساط الإسرائيلية بالنسبة للمستقبل وهو ما كان قد حذر منه الرئيس الأمريكي بايدن من منطلق الحرص على إسرائيل والانحياز إليها، وهو ما أغضب قطاعات من الشباب الأمريكي وساعد في تقلص أجزاء من شبكة الحماية غير المرئية لإسرائيل ضد أية إدانات والتي استمرت سنوات طويلة من جانب مختلف الإدارات الأمريكية حتى الآن.
(2 ) في يناير 2024 امتنعت واشنطن عن التصويت على مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدعو إلى وقف القتال في غزة لأسباب إنسانية وإطلاق سراح الرهائن والمحتجزين وقد انتقدت إسرائيل موقف واشنطن لأنها لم تستخدم الفيتو ضد مشروع القرار، وكانت واشنطن قد استخدمت الفيتو ثلاث مرات متتالية سواء بالنسبة للدعوة لوقف إطلاق النار في غزة، أو للاعتراض على مشروع قرار يدعو لقبول فلسطين دولة كاملة في الأمم المتحدة وهو ما حدث على سبيل المثال في 18 إبريل الماضي.
(3) في العاشر من مايو الجاري صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع قرار قبول فلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وبالفعل وافقت 143 دولة من الدول الأعضاء وامتنعت 25 دولة عن التصويت وعارضت 9 دول، وهو تطور إيجابي ملحوظ لصالح الاعتراف بدولة فلسطين في المستقبل. جدير بالذكر أن كلا من أسبانيا والنرويج وإيرلندا أعلنت أنها ستعترف بدولة فلسطين الشهر الجاري مما أثار حفيظة إسرائيل ورفضها لذلك، وبرغم أن واشنطن وبعض دول الاتحاد الأوروبي لم تتحمس لهذه الخطوة مفضلة أن يتم الاعتراف عبر مفاوضات وبأسلوب جماعي وهو ما يتيح لإسرائيل مزيدا من الوقت والمماطلة إلا أنه يمكن القول بأن فلسطين تحقق خطوات إيجابية سيكون من الصعب وقفها في المستقبل .
( 4 ) قبلت محكمة العدل الدولية المذكرة التي تقدمت بها دولة جنوب أفريقيا إلى المحكمة والتي تطلب فيها أن تأمر المحكمة إسرائيل بوقف الحرب في غزة ووقف الإبادة الجماعية باعتبارها جريمة حرب ضد الفلسطينيين. وفي مرافعات 11 و12 يناير أمام المحكمة حاولت إسرائيل عبثا قلب الحقائق تماما بزعم أنها تقوم بالدفاع عن نفسها ضد حماس ونفت قيامها بإبادة جماعية واتهمت جنوب أفريقيا بالعمل لخدمة حماس لتشويه موقف بريتوريا إعلاميا وسياسيا ولكن موقف إسرائيلي مكشوف.
( 5 ) في 24 مايو الجاري أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها بالغ الأهمية والذي يأمر إسرائيل بوقف القتال في رفح فورا بناء على طلب جنوب أفريقيا وبسبب ممارسات إسرائيل والمخاطر المترتبة على استمرارها. ومما له دلالة أن جميع قضاة المحكمة الأصليين (15 قاضيا) وافقوا على القرار باستثناء قاض إسرائيلي خاص، أي ليس عضوا أصليا في المحكمة وكذلك القاضية الأوغندية « جوليا سيبوتيندي» التي اعترضت على القرار، وكانت هي الوحيدة أيضا التي اعترضت على قبول الدعوى في يناير الماضي. وقد طلبت المحكمة من إسرائيل تزويدها بتقرير خلال شهر حول تنفيذها للقرار وسوف يحال قرار المحكمة إلى مجلس الأمن تمهيدا للتنفيذ ومن غير المستبعد أن تكون هناك مماطلة ما في هذه الظروف لخدمة إسرائيل بالطبع، ولكن المهم أن المحكمة أصدرت قرارها لصالح وقف القتال في رفح ووقف الأعمال الأخرى ذات الصلة.
جدير بالذكر أن نواف سلام رئيس محكمة العدل الدولية أكد أن «الوضع في قطاع غزة واصل التدهور منذ أمرت المحكمة إسرائيل في وقت سابق باتخاذ تدابير لمنع وقوع أعمال إبادة ... وأن الشروط أصبحت مستوفاة لاتخاذ إجراءات طارئة جديدة «وأن على دولة إسرائيل أن توقف فورا هجومها العسكري وأي عمل آخر في رفح .» وردا على ذلك تعمدت إسرائيل رفض القرار وتصعيد عملياتها العسكرية في رفح ودعا بعض وزرائها إلى احتلال غزة وهو رد فعل «بلطجي» يعبر عن مأزق إسرائيل وحكومتها في مواجهة انتعاش القضاء الدولي.
ثانيا، على صعيد آخر خطت محكمة الجنايات الدولية خطوة أخرى تمهيدا لمحاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو ووزير دفاعه جالنت بسبب ممارسات القوات الإسرائيلية في غزة، وبالفعل طلب المدعي العام للمحكمة البريطاني « كريم خان» إصدار مذكرات اعتقال في حق كل من نتانياهو وجالنت من إسرائيل ويحيى السنوار ومحمد ضيف وإسماعيل هنية من حركة حماس، وفي الوقت الذي تعد فيه عملية إصدار مذكرات الاعتقال عملية إجرائية داخل محكمة الجنايات الدولية وفق ضوابط وخطوات محددة تضمن جدية ونزاهة المحكمة فإن أعضاء المحكمة الموقعين على اتفاقية روما ( 123) دولة ،ملزمون بالتعاون مع المحكمة لتنفيذ مهمتها القانونية السامية. وبينما أعرب كريم خان عن أن المسؤولين المشار اليهم « مسؤولون عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة وإسرائيل « فإنه من المؤسف حقا أن تتعرض محكمة الجنايات الدولية لحملة انتقادات واسعة، بل ولحملة تهديدات لمجرد قيامها بدورها في حماية القانون الدولي. إنه اختبار صعب ودقيق أن يختار العالم بين دعم القانون والمؤسسات الدولية وبين دعم إسرائيل بحجة المساواة بين إسرائيل وحماس بالنسبة لإصدار مذكرات الاعتقال وهو ما نفاه كريم خان ذاته بالنظر إلى أن الجرائم التي سيحاكم عليها الجانب الإسرائيلي مختلفة، بل ومخففة عن تلك الخاصة بحماس أما تهديد الكونجرس بمعاقبة أعضاء المحكمة بسبب مذكرات اعتقال نتانياهو وجالنت فإنه يمهد لقتل المحكمة ومهمتها لصالح إسرائيل الخارجة عن القانون.