القدح في الماضي باسم نقده!

15 مارس 2023
15 مارس 2023

لكل تيار من تيارات الوعي العربي مشكلة ما مع الزمن؛ إما جملة أو مع زمن بعينه. قد تكون خصومته مع الماضي شديدة؛ وقد تشتد مع حاضر يبدي التبرم الدائم به؛ وربما كانت شبه مؤكدة مع مستقبل يخاف مما يضمره من مفاجآت مرعبة ويتطير منه. ولكنا نجد في مقابل كل موقف سلبي من هذه الأزمنة موقفا إيجابيا لتيارات إما تبجل الماضي أو تخلع عليه - أحيانا - أردية القداسة؛ أو تنتصر للحاضر فتعلن انتماءها إلى زمنه باسم المعاصرة أو الحداثة؛ أو تزعم لنفسها علما يقينيا بما سيكون عليه المستقبل من تقدم ورخاء. والغالب على المقالات المختلفة والمتناقضة هذه أنها، في انتصارها لأزمنة أو قدحها في أخرى، لا تسلك في النظر إلى موضوعها مسلكا علميا نزيها، بل إن أكثر كلامها على الزمن إيديولوجي على نحو لا غبار عليه. وآي ذلك أنه ما من مشتركات بينها في تعريف أي من تلك الأزمنة، ولذلك يبدو والزمن الواحد منها في صورة الشيء ونقيضه في الآن عينه في خطاب تـيارين متنازعين عليه - والحال إن التناقض الحدي ذاك ليس في الموضوع المنظور إليه (أو ليس في الزمن)، وإنما في الوعي الناظر فيه!

هكذا نلفي أنفسنا وكأننا داخل سوق من المضاربات الإيديولوجية بين تيارات الوعي العربي المعاصر. لا نكاد نزدرد تلك الجرعات العالية المتلاحقة من أفعال تبجيل الماضي، مثلا، حتى يطالعنا خطاب نقيض لا هم له سوى فسخ ما أبـرم الأول، وتسفيهه والانبراء لجبهه والقدح فيه، بل والتفنن في بيان معايبه وسوءاته وغنائنا، بالتالي، عن الحاجة إليه. غير أن صولات أهل هذا الخطاب المعادي للماضي وجولاتهم لا تكتمل، أو تستغرق قضيـتها، إلا من طريق القدح في من يبجلونه من «الماضويين» أو «التراثيين» أو السلفيين...إلخ، والإنحاء على طرائقهم في التفكير بالنقد والطعن. أما لماذا لا تكتمل وجبة الغارة على الماضي إلا بالعداء على دعاته والحادبين عليه، فلأن الهجوم على هؤلاء جزء لا يتجزأ - عند من يقومون به - من الهجوم على الماضي ومن الإتيان على رسمه بمعاول الهدم؛ ولأن هؤلاء - في وعي خصوم الماضي - هم من يمددون إقامته في الحاضر، ويؤسسون لديمومته الأسباب فتراهم لا يكـفون عن استدعائه في الكلام وفي الكتابة، والاقتباس منه، والتسويغ به، والبناء عليه، بل إنهم - وهذا هو الأنكى عند خصومهم - مسؤولون عن تمهيد التربة له ليزدرع سلطانه في نفوس أجيال جديدة تجري تنشئـتها على قيمه... وعلى تقديسه، باذلين في سبيل ذلك النفس والنفيس، ومتوسلين في معركتهم الأسلحة كلها: حتى أشدها فتكا؛ أي ما يجاوز مجرد العنف اللفظي!

ولا يشـتد خصوم الماضي في نقد دعاته والحادبين عليه إلا جوابا منهم عن استبسال الأخيرين في الدفاع عنه، وجنوحهم المتزايد للتحريض على منتقديه وتأليب الرأي العام عليهم، بل واصطناع تـهم ثقيلة، في ميزان الشعور الديني الجمعي، ورشقهم بها لوضع مكانتهم الضعة التي تجرئ عليهم محازبي قوى الماضي. وآي ذلك أن دعاة المعاصرة ثم الحداثة ما كانوا لزمن طويل (امتد منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى سبعينيات القرن العشرين) ليبدوا كل تلك الخصومة العنيدة لدعاة التراث والماضي، لأن هؤلاء ما كانوا، حينها، قد جردوا أسلحة مواجهة مصيرية، ولا كانت «الصحوات» الإسلامية قد آذنت لهم بميلاد شرط ثقافي جديد. وليس في هذا التعليل لـ «النازلة» تبريرا لمسلك الحداثيين تجاه خصومهم، ولا تسويغا لشراسة نقدهم، بل فيه ما يلقي بعض الضوء على بواعث انزلاقهم إلى أسلوب المضاربة عينه الذي لجأ إليه خصومهم. ولكن الذي فاق دعاة الحداثة أن يفهموه في مسلك دعاة التراث والماضي أن استبسال هؤلاء القتالي ذودا عن الماضي ما كان، دائما، من أجل «سواد عيون» ذلك الماضي، بل كان دفاعا عن وجودهم ونفوذهم اللذين اقترنا بوجود ذلك الماضي ونفوذه في الحاضر.

إذا كان الماضي المثال الذي على المستقبل أن يبنى على طرازه، والمرجع الذي على الحاضر أن يفيء إليه، عند المدافعة عن ذلك الماضي، فهو أشبه ما يكون بالعاهة التي علينا أن نخفيها وأن نحجبها عن عيون العالم وأجيالنا الجديدة، عند من يعالنونه خصومة جهيرة. لا يرى الأخيرون مسوغا مشروعا لأي شعور باحترام ماض هو، عندهم، الشاهد على التخلف، والتعصب، ومعاداة العقل، وعلى الاستبداد وقمع الرأي، فكيف بالاحتفال به، أو الانتهال منه، أو البناء عليه. ليس في ذلك الماضي ما يحمل هؤلاء على حسبانه لحظة من الزمن طبيعية، ولا فيه ما يرجع إليه أو - حتى - أن يستأنس به. ولا يغير، عندهم، من الأمر أنه اتسع - يوما - لبعض ما هو إيجابي وعقلاني وتنويري؛ ذلك أن هذا النفس الشحيح تعرض، بدوره، للخنق فتبدد وكأن لم يكن ولا كان له شبهة امتداد وبقاء!

نعثر على مضمون هذه المقالة المعادية للماضي في الكثير من كتابات من يعدون أنفسهم في عداد الحداثيين. لا يعنينا منها الكثير من الكلام الإيديولوجي المدبج في مساجلة الإسلاميين الحزبيين، وإنما يعنينا - في المقام الأول - ما كتبه ويكتبه باحثون في التراث العربي الإسلامي من المتخصصين في تاريخ الفكر، أو ما كتبه آخرون عن دراسات هؤلاء الباحثين. من غير المشروع، هنا، أن نعمم الأحكام على الجميع. من الباحثين الحداثـيين من صانوا التقاليد العلمية في البحث فما انزلقوا إلى المساجلات والمناكفات مع خصومهم، ومنهم من احترم تاريخية المعطى التراثي المدروس فما سقط في مصيدة إسقاط أحكام اليوم على مادة أمس. على أن هؤلاء بدوا أقل تأثيرا ممن رفعوا عقائرهم يهاجمون التراث يمنة ويسرة، حتى من دون أن يتحصلوا الحد الأدنى من العلم به؛ إذ كانت قضيتهم دائما - وما تزال حتى يوم الناس هذا - أن ينفـروا الناس من ذلك الماضي والتراث فلا يقـربوه خشية «التلوث» به!

لا بد لنا، هنا، من تمييز هذه الفئة من أهل المعاصرة التي يجري الكلام عليها، وبيان موطن العطب في نظرتها إلى الماضي، حيث ليس كل نقد للماضي والتراث تشنيع عليهما بالضرورة أو حظا من مكانتهما في سيرورة التاريخ. نحن نتحدث، على وجه الحصر، عن فئة من الكتاب مصابة بنظرة عدمية إلى الماضي؛ والعدمية حالة ثقافية مرضية لأن المصاب بها فقير إلى الحد الأدنى من الحس التاريخي، فضلا عن أن رفضويتها تجاه ما هو موجود ومتاح يضمر نوعا من الاستعلاء الأجوف. غير أن أم المعضلات في العدمية هي خلوها من أي معنى، بل كفرها بأي معنى. لذلك فإن أخطر ما يمكن أن تشيعه في الحياة الثقافية هو اللامبالاة تجاه أي معنى ينتجه عهد ثقافي ما؛ وهي لا مبالاة كثيرا ما تفصح عنها فكرة القطائع، ومنها القطيعة مع الماضي.