الفهم الرديكالي.. بنيوية التغيير

04 ديسمبر 2022
04 ديسمبر 2022

تنتشر الراديكالية ويشاع اسمها كمفهوم أكثر منه كممارسة، ولكن الحقيقة هي فعل منجز لدى كثير من الأفراد على امتداد مستوياتهم الاجتماعية والثقافية بنسب متفاوتة، وإن لم يعلنوها، وقد تظل خلية نائمة إلى حين غفوة فقط، ولذلك من السهولة بمكان أن تمارس عفويا على أنها فعل مرتد للطبيعة البشرية التي تهوى السيطرة، وفرض الرأي، والتنطع، والتشنج، والمباهاة بقول الفصل؛ وفي المقابل؛ لا تقبل النقاش، ولا تقبل الحوار، ولا تقبل التقاطع، ولا تقبل القسمة على إثنين، ولا تسعى إلى استيعاب قبول بالتضحية النسبية التي تعطي فرصة للآخر المختلف؛ على الأقل، وكما هو معروف بالضرورة؛ أن الفهم الرديكالي لمختلف جوانب الحياة ينطلق من التغيير البنيوي، ويذهب إلى التأصيل، ولا يحتمل الحلول الوسط؛ بل؛ ولا يقبلها، بخلاف الفهم الليبرالي، وبالتالي فهناك ثمة مفارقات موضوعية بين الرديكالية والليبرالية، مع أن منشأ الاثنين المعرفي البيئات الغربية المتنازعة مع ذاتها ولا تزال تبحث عن مسكن يسكن آلامها، ومواجعها؛ والسؤال هنا: إلى أي حد يمكن أن يساهم تفكيك عناصر تكتل الرديكالية في العقل الباطن في تعضيد الدولة المدنية؟ هذا الأمر مسؤول عنه مستوى النمو في الوعي الجمعي، وهو يتأسس منذ البدايات الأولى للناشئة، ولا يترك فقط للفرد أن يكتسبه من المجتمع عبر مراحل نموه البيولوجي، وإلا قد يغدو وعيا مشوها، لأن المجتمع يضم بين جنباته الكثير من حالات التضاد، والتناقض، فإذا وقع الفرد في وسط هذه الحالات؛ يقينا؛ سوف يعيش حالة التناقض هذه، ولن يكون له رأيا مستقلا يعبر عن قناعاته الفردي، وليس معنى ذلك أيضا، أن ليس لأبناء المجتمع كلهم هذا الموقف، لا أبدا، فهناك من له مواقفه المحددة، ورأيه المستقل، ولا يخضع بأي حال من الأحوال لمثل هذه التناقضات، ولكن تبقى هذه فئة قليلة، وقد لا يكون لها صوتا مؤثرا في المشروع الاجتماعي الكبير، ولذلك فهي تنزوي جانبا إلى إحدى الزوايا، مقتنعة بما هي عليه، وتاركة المجتمع تتلاطم أمواجه بمختلف هذه التناقضات، وهذه هي الصورة الغالبة لدى كل المجتمعات، ويقصد؛ هنا؛ بالبدايات الأولى للناشئة، هي تلك المراحل الأولى التي تغذي هذا الفرد بحقوقه وواجبات، بدءا من الأسرة الحاضنة؛ والتي تتحمل العبء الأكبر، مرورا ببيئات المؤسسات التعليمية المتعاقبة على تغذيته المعرفية، وصولا إلى بيئات العمل التي؛ يفترض؛ أن تحكمها القوانين والنظم، والتي تعطي كل ذي حقه حقه، من غير نقصان، وبلا مطالبات، ونزاعات، وواسطات، ومحسوبيات، وإراقة ماء الوجه على أرصفة الذل والمهانة والتضحية بالقناعات، والشرف، والأمانات، ومعنى ذلك فأيما وجد خلل في هذه المناخات الثلاث، كان ذلك عامل مؤثر في مسار الوعي الجمعي، وفشل في تحققه، وفشل في توظيفه على الواقع حيث "فاقد الشيء لا يعطيه".

في أي مرحلة من مراحل الوعي الجمعي يمكن أن يربك استحكامات التأصيل الرديكالي؛ ليتحول من مفهوم متأصل لا يقبل التجزئة، إلى مجرد مفهوم عالق في الذاكرة ليس له أي تأثير على الواقع؟ هذه مرحلة متأخرة جدا في عمر المجتمعات، فحتى تصل هذه المجتمعات إلى هذا المستوى من التفريق بين خطأ الممارسة وصوابها تحتاج إلى أجيال متتالية من النمو المعرفي، ونمو الوعي، ونمو تأصيل المعرفة بالقواينن والنظم، ونمو القناعات بأهمية الآخر، ونمو القدرة على اتخاذ المواقف دون ضغوط، ونمو الإيمان بأهمية الدور الذي يقوم به الآخر المختلف عن ما ألفه المجتمع، حيث الذهاب هنا إلى الصورة المثالية المتكاملة، وهذه غاية كل الشعوب التي تأمل أن تأمن على نفسها، ولأن الغايات؛ الناتجة عن تحقق الصور المثالية؛ صعبة المنال، لذلك تظل الحالات الممزوجة بشيئ من الراديكالية قائمة، وتظل ممارساتها ملموسة، ويظل الإيمان بضرورة وجودها مستساغ، لأن الفهم يختزن شيئا مما تذهب إليه مقولات: "شعوب لا تحكم إلا بالسيف" "وشعوب لا تؤمن إلا بالديكتاتورية"، "وشعوب تذهب إلى إقامة عدو لها إن لم تجد عدوا حقيقيا مباشرا يناكفها العداء" وغير ذلك من المفاهيم المترسخة في الذاكرة الاجتماعية ذاتها وهي الذاهبة كلها إلى تجريد الأنفس من استحقاقاتها الإنسانية التي تؤمن بالأمن والاستقرار، والهدوء، والرضى، والتلاحم والتكاتف والتعاون، ونبذ التباغض والظلم والتقاتل.

تنبثق الثقافة المدنية من الوعي الاجتماعي الشامل، وكلاهما ضروريان جدا لمجابهة تأصل الراديكالية في الذاكرة الاجتماعية، ولذلك لا يتسنى للثقافة المدنية، ولا الوعي الاجتماعي، أن يتفرعا، ويأخذا دورها الحقيقي في وسط بيئة متشنجة ينتشر فيها الفهم الراديكالي كممارسة أكثر منه كمفهوم، والمصيبة الكبرى في هذا المتموضع أن يمارس الفرد الرديكالية من غير وعي، وكأن ما يقوم به – اعتقادا منه – أنه غير مُقَيَّمْ من قبل الآخرين، وأن مختلف الممارسات التي يقوم بها عين الصواب، وهذه الصورة تصنف ضمن إشكالية الوعي بالمفاهيم، نعم؛ قد يألف الناس ممارسة سلوك أعوج أو متصلب، أو متعصب يبديه فرد، أو مجموعة من الأفراد، ويعد ذلك طبيعة بشرية، وقد يدعون له، أو لهم بالهداية، وتتأصل الصورة أكثر كأنه واحدة من معضلات الوعي الجمعي، وهذا؛ بالتأكيد؛ يؤثر على صورة الثقافة المدنية، ويحدث فيها "ثُلْمَةٌ" ليس يسير رتقها، مع أن رتقها واجب، حتى لا تشوه اللوحة الفسيفسائية للثقافة المدنية، وإلا عد ذلك عيب كبير على الوعي الاجتماعي الذي لا يستطيع أن يلحم جميع الـ "ثُّلُمَاتْ" المشوهة لجدارانه الممتدة، وهذا ما يحدث غالبا في كثير من المجتمعات "الحديثة" المتأخرة حضاريا، والنعت الحضاري هنا، لا يذهب إلى تسيد ناطحات السحاب، والشوارع المرصوفة الواسعة، وإلى إظهار مجموعة من الممارسات الاحتفالية التي تزهو ببريق الصورة، على المشهد العام إطلاقا، ولكن يذهب إلى تسيد مجموعة من القوانين والنظم، والإيمان بالقيم الإنسانية الرفيعة التي تعلي من شأن الإنسان، وتنزله المنزلة المباركة، حيث ترى فيه الإنسان الفرد الذي تتحقق له كل حقوقه المدنية، والإنسانية من دون تكلف، ولذلك؛ شخصيا؛ لا أتفق مع ما تؤول إليه المقولة الشائعة: "الحقوق لا تهدى؛ ولكن تنتزع" فهذه مقولة أريد بها باطل، فالحقوق يجب أن تكون حاضرة، ومتحققة لأي فرد في مجتمعه، سواء هذا الحق توفره مؤسسة رسمية، أو هو ما أتفق عليه بين تفاهمات أفراد المجتمع، ولا يجب أن يخرج المعنى أكثر من هذه المساحة المحددة، وإلا سادت الفوضى، وساد التباغض، وسادة المحسوبيات، وسادت الواسطات، وسادت الرشاوي، وقس على ذلك الكثير من الممارسات الخاطئة، التي تذهب جلها إلى الإساءة لحقوق الفرد، وإراقة دماء وجهه على الأرصفة، وهذا الأمر لا ينتمي إلى بيئة الثقافة المدنية إطلاقا.

هل ثمة علاقة قائمة – متضادة أو متفقة – بين الرديكالية والدولة المدنية؟ والجواب على هذا السؤال: أنه على ما يبدو أن هناك علاقة تضاد بين الرديكالية والدولة المدنية؛ فالدولة المدنية تشرع وفق أفق ممتد لا تحده حدود الطرق الضيقة، ولا الأحكام المطلقة، تنيخ ركابها حيث الاستقرار، والاطمئنان، والتتضحية، وتنجز مشاريعها حيث سطوع النور، والرؤية الواضحة المشرقة، بينما كل هذه المنخات تتقطاع مع الرديكالية التي لا تؤمن بالنسبية التعاونية، فخطوط الطول والعرض تتماهى على خطين فقط، والمفاهيم النسبية التي تضع اعتبارات للاختلاف وتقاطع الرؤى تكاد تكون معدومة، تنتصر للفرد؛ ليس لأنه صاحب مواهب مميزة، وليس لأن لديه القدرة على استحضار رؤى استشرافية لخدمة الغد، وليس لأنه لديه القدرة على استيعاب الآخر، والتوافق معه، ولكن لأنه من يجب أن يتبوأ القمة، وإن كان من غير مؤهلات، ومن غير إمكانيات.

يتهم الدين على أنه المنشأ الأول للرديكالية؛ والحديث هنا عن بيئة النشأة حيث مولد الرديكالية – في المجتمع الغربي؛ على وجه الخصوص - ولذلك إنعكاسا لما قامت به الكنيسة بممارسات قاسية على من حولها في كل شؤون الحياة، لأنهم خرجوا عن الفكر المحدود المتعصب الذي يقوم به رجال الدين، كما تذهب إلى ذلك الكثير من المصادر؛ ولذلك يتم اليوم إسقاط ذلك على الدين الإسلامي؛ تحت مفهوم الإسلام السياسي، ونعت ذلك بالأصولية؛ مع أن المقارنة ظالمة، فالدين غير الدين، والظروف غير الظروف، والأسباب غير الأسباب، والبيئة غير البيئة؛ فالاختلافات جوهرية، والمفارقات موضوعية، فالدين الإسلامي المنزل من عند الله عز وجل لا يزال يحافظ على قدسيته من التحريف، والتبديل، وهو منطلق للتسامح والحوار، واستيعاب الآخر، لأنه جاء إلى الناس كافة.