الفن بين الماضي والحاضر
هذا المقال يرتبط بمقالي السابق بعنوان «انحطاط الفن العربي»، ويُلقي مزيدًا من الضوء عليه، وربما يرى البعض -من خلال مقالي السابق وهذا المقال أيضا- أنني صاحب رؤية ماضوية تُعلي من شأن الماضي على الحاضر، وبالتالي فإن رؤيتي تبقى أسيرة للماضي ولا تواكب ما يجري من تطورات في عالمنا الحاضر. وهذا فهم يجانب الصواب؛ ذلك أن إعلاء الماضي لا يعني تقديس الماضي من خلال نزعة ماضوية تتمثل دائمًا في الحنين إلى الماضي في مقابل الحاضر الذي قد يكون أفضل منه وأكثر تقدمًا، فليس كل إعلاء للماضي يعني أننا نتبنى نزعة ماضوية تعلي من شأن الماضي بما هو ماضٍ، أي في حد ذاته، بل يعني أننا يجب أن نحتفي بهذا الماضي حينما يكون هذا الماضي متقدما على الحاضر وأكثر منه ثراء. ولذلك فإن من ينحازون للحاضر بما هو حاضر يكونون بذلك غافلين عن أن الحاضر في بلد أو أمة ما في عصر ما، قد يكون فقيرا جدا وبائسا بالنسبة إلى عصر سابق عليه. وربما كان موقف هؤلاء مقبولا إذا كان يصدر عن أقوام يعيشون في عالم متحضر يُنتج إبداعا وفنا رفيعا، أما إذا كان يصدر عن أناس لا ينتجون فنا ولا يقدرون الأعمال الفنية العظيمة من الفن في أوطانهم، فلا ينبغي أن نعتد برأيهم أو نلتفت إليهم، لأن عموم الناس في النهاية هم نتاج عصرهم، وذائقتهم الفنية والجمالية تتشكل وفقا لما يقدمهم لهم عصرهم من الفن، فإذا كان هذا العصر فقيرا في إبداعه، فلن يخلق سوى جمهور من الفقراء في الذائقة الفنية، لا يعرفون من الفن سوى ما يُقدَّم لهم، أما من يعرفون كيف يقدرون قيمة الفن حق قدره، فهم من يعرفون حقا أن الفن العظيم ليس مرهونا بعصر ما، وإنما هو الذي يصنع قيمة هذا العصر، ولهذا السبب نفسه، فإن الفن العظيم يبقى شاهدا على أهمية عصره ومدى إسهامه وتأثيره في العصور التالية. ويكفي شاهدا على ذلك أن الأعمال الفنية العظيمة لدى قدماء اليونان لا تزال حاضرة بقوة في الثقافة الإنسانية، وهو ما يصدق أيضا على سائر الأعمال الفنية والأدبية العظيمة في العصر الحديث وما يليه.
ومع ذلك، فلا يمكن إنكار أن تقدير فن الماضي يرتبط عند معظم الناس بحالة «النوستالجيا» أو الحنين إلى الماضي، حتى بالنسبة إلى الناس الذي يعيشون في بلدان متحضرة تُنتج فنا وثقافة وإبداعا بوجه عام. يتبدى هذا في الحنين إلى أغاني وأفلام الماضي، حتى تلك التي تخص شعوب أخرى متقدمة: فنحن نشعر بالحنين إلى فننا العربي (والمصري منه خاصة) في السينما والمسرح والأغنية، تماما مثلما يمكن أن نشعر بهذا الحنين للفن الغربي في السينما والغناء، باعتباره كان يسهم في تشكيل إحساسنا أو ذائقتنا الجمالية، على الأقل بالنسبة إلى أولئك الذين يكونون على قدر ما من الثقافة. ومن هنا يمكن أن نتفهم حالة الجيل الراهن حينما يشعر بالحنين إلى أغاني الماضي التي تنتمي إلى وطنه مثلما يشعر بالحنين إلى الأغاني الغربية، ومنها على سبيل المثال: أغاني إلفيس بريسلي، وشارل أزنافور، وإنجل بيرت هامبردنج، وماريه ماتيو، وديمس روسوس، وخوليو إجلاسيوس، وأغاني فرقة الآبا وفرقة البَكاراه، وغير ذلك كثير للغاية، وقد كان لهذا تأثير على نشأة فرق موسيقية وغنائية عربية تسعى إلى تحديث الموسيقى والغناء. ولعلنا نتذكر بهذه المناسبة أن هناك أغاني أوروبية عديدة تحمل عنوان «نوستالجيا»، ومنها أغنية رائعة لخوليو إجلاسيوس.
ولكننا بينما نلاحظ في أنفسنا هذا الحنين إلى فن الماضي (بما في ذلك فن الغرب نفسه)، فإننا نلاحظ أن الفن في الغرب لا يزال متواصلا إلى حد ما وبأشكال مختلفة (وإن لم يكن على المستوى نفسه من العظمة والعَبَق الخاص)، كما نلاحظ في مقابل ذلك أن الفن في عالمنا العربي قد انحط قدره، اللهم إلا من جهود فردية استثنائية هنا وهناك، لا تشكل ظاهرة عامة. وقد فصلت هذا القول في مقالي السابق بعنوان «انحطاط الفن العربي». وربما يستدعي هذا في أذهاننا ذلك السؤال: هل التحولات في أحوال الفن مرتبطة بالأوضاع الحضارية للأمم؟ يبدو هذا الأمر كما لو كان حقيقة واضحة بذاتها، ولهذا فإننا نرى الآن بجلاء أن التحولات التي تحدث في عالمنا الراهن، يواكبها تحولات تحدث أيضًا على مستوى الفن. وربما يفسر لنا هذا السبب في أن الفن الشرقي في آسيا بدأ الآن يغزو العالم، سواء على مستوى الدراما أو السينما (باعتبار أن هذه الأنواع الفنية هي أكثر الأنواع قدرة على الانتشار بسهولة في عالمنا الرقمي): ويكفي في هذا الصدد أن نلاحظ أن الأفلام السينمائية الآسيوية بدأت المنافسة على جوائز الأوسكار منذ سنوات عديدة، وفاز أحدها هذا العام بسبع جوائز، وهو فيلم «كل شيء في كل مكان، دفعة واحدة»؛ بينما الأفلام العربية غالبا لا تستطيع حتى الترشح للجائزة، لا المنافسة عليها.
فحوى الأمر هو: أن حال الفن مؤشر حقيقي على حال التقدم والتحضر، ولكننا ينبغي أن نضيف إلى حال الفن حال الفلسفة (أو الفكر) والعلم أيضا. وأظن أن هذه حقيقية بديهية، ولكن المشكلة الحقيقية هنا هي أننا نغفل دائما عما هو بديهي، فنظن أنه يتمثل فقط في الواقع الذي نعيشه.