الفلسفة في مواجهة التطرف

13 يناير 2025
13 يناير 2025

يؤدي التطرف في العالم العربي والإسلامي دورًا محوريًا في صناعة الأحداث السياسية والاجتماعية، ولم يبدأ الأمر في السنوات الأخيرة فحسب، بل كانت له امتداداته التاريخية السابقة. راح ضحيته الكثير من الأبرياء، وفي الجانب المقابل أيضا كان ضحيته الشباب المغرَّر بهم للالتحاق بالجماعات المتطرفة التي تخدم أجندة معينة.

في هذا السياق يأتي الدور المهم -الذي كثيرا ما يتم تجاوزه في العالم العربي- للعلوم الإنسانية، على الرغم من الدور الذي يمكن أن تؤديه في هذه المسألة، إذ إن العلوم الإنسانية قادرة -إذا لم تكن مجرد حشو معلوماتي «لأن رأسا وُضب بكيفية جيدة يبقى أفضل من آخر جد ممتلئ» كما يذكر الدكتور الطاهر سعود- على تحليل الواقع الاجتماعي وما يصاحبه من مشكلات وتقديرها بحيث يتم استباق ضربات المتطرفين بخطوة إذا كان هناك تحليل اجتماعي وواقعي جيد وبناء أكاديمي ومنهجي يتوافق مع العصر ولا يهمّش العلم الإنساني في سبيل إعلاء العلوم التقنية أو الطبيعية بحجة التنمية والتقدم وغيرها.

إن السبيل في تحقيق التقدم والتنمية الحقيقيين هو أن يكون العلمان يسيران بتوازِ مع بعضهما، دون إنقاص من واحد وإعلاء الآخر، لأن ذلك يحتم أن تكون هناك فجوة معينة يجب معالجتها، أما التوازن بين الاثنين وإعطاؤهما حقهما يمنح التطور المعرفي في المجتمع البشري.

واحدة من العلوم الإنسانية -بل أم العلوم كما يصفها ديكارت- المهمة في هذا السياق هي الفلسفة. تربي الفلسفة لدى الدارسين التفكير النقدي الذي يجعلهم يقيسون الأمور بمقياس العقل، وقد تكون النتيجة في المحصلة خاطئة لكنها على الأقل مرت بمرحلة تمحيص وتفكير، ولذا فإن احتمالية إعادة التفكير فيها مرة أخرى وبحثها أكبر من احتمالية بحث فكرة ترسخت في العقل دون نقدها في البداية، ولسنا نُعنى هنا بقياس أهمية الفلسفة لدى الدارس فذاك مبحث آخر بحاجة لزيادة تفصيل، لكن المعني هنا هو الإجابة عن سؤال: كيف يُمكن أن توضع الفلسفة في مواجهة التطرف؟

في مقال لها حول الموضوع، تطرح البروفيسورة أنجي هوبز مسألة التلقين وعلاقتها بصناعة التطرف، لذلك فإن الفلسفة تمنح مرانا عقليا للوصول إلى حالة من التفكير النقدي والتحليل والنظرة الواقعية للأمور، وقد يعترض على هذه المسألة بأن فيلسوفا كبيرا مثل هابرماس على الرغم من نتاجه الفلسفي، إلا أنه وصل إلى نتيجة مساندة إسرائيل، نقول: إن ذلك لا ينفي ما تمنحه الفلسفة من تفكير نقدي وتحليل، لكن لا يعني ذلك أيضا أن تكون موصلة للنتائج الصحيحة دائما، سواء كانت أخلاقية أو معرفية، لأن ذلك يتحدد بمدخلات أخرى متعلقة بالسياسة والسوسيولوجيا وغيرها، لكن في المنظور العام فإن التاريخ والواقع الفلسفي يشيران إلى أنها قادرة على زيادة التفكير النقدي بما يتناسب مع الوضع المعاش. وحتى من الجانب البراجماتي، فإن الحرب التي يعيشها العالم اليوم هي حرب أفكار، وتستخدم فيها أدوات كثيرة للسيطرة على الأفكار والخيال والسلوكيات، بما يتناسب مع أجندة الدول الكبرى وأيديولوجياتها، لذلك فإن وجود الفلسفة وربطها بالمكوّن الثقافي يُمكن أن يطور من آليات الدفاع الفكري عن النفس في مجابهة الأفكار المرسلة أو محاولة السيطرة على العقل دون أن يمر ذلك بعملية نقد أو تمحيص.

لخلق هذه الحالة من التفكير النقدي لدى جيل الشباب لابد أن تكون دراسة الفلسفة مقرونة بالمناهج المدرسية، إذ إن هذه الدراسة قادرة على صنع نوع من المعرفة بالتاريخ الفلسفي أولا ثم معرفة المفاهيم الفلسفية التي تكوّن معرفة بالمعقول بجانب المعرفة التقنية، عليه فإن صنع المناهج الفلسفية في المدارس يُمكن أن يبدأ من الصفوف الإعدادية (من الصف السابع إلى الصف التاسع) ويُمكن أن تكون هذه المرحلة معنية بالتاريخ الفلسفي المبسط على أن تكون بأسلوب ممتع وثري، وليس فقط حشوا معلوماتيا يجعل الطلاب يتهربون من دراستها أو استثقالها. فعلى سبيل المثال، جاءت رواية عالم صوفي لتؤسس مثل هذه المعرفة بطريقة روائية بسيطة وممتعة، تُعرّف القارئ بالتاريخ الفلسفي الغربي خصيصا، وقد أضاف لها الكاتب العماني محمد رضا اللواتي التاريخ الإسلامي أو الشرقي في روايته (البعد الضائع في عالم صوفي)، فيُمكن الاعتماد على مثل هذه الروايات المبسطة لبناء المناهج في هذه الصفوف المتقدمة من أجل دراسة مسلية للتاريخ الفلسفي. أما في المراحل الثانوية، وهو الحال في مناهج معظم الدول التي تعتمد مقرر الفلسفة حتى في دول الخليج، فيُمكن أن تكون المناهج في القسم الأدبي، على أن تكون المناهج مركزةً على النظريات المعاصرة والمفاهيم الفلسفية البسيطة المتعلقة بالتفكير النقدي والعلمي وكذلك بعض الوحدات في المنطق. وجود المنطق في المنهج يضفي بُعدا آخر من تقويم التفكير، إذ أن المنطق بما هو أداة لعصمة الفكر من الوقوع في الخطأ، كما أن النحو يعصم اللسان من الخطأ، يجعل التفكير الفلسفي يقوم على أدوات منطقية قادرة على تقويم الأفكار وتقييمها. وكما أسلفنا فيجب أن يكون هذا التعليم متناسبا مع روح العصر وأدواته في التدريس، فإن المنطق -على السبيل المثال- علم آلة وغالبا ما يكون ثقيلا على النفس، ولعل في هذا يُمكن قياسه بالنحو، فكثير من الطلبة يهرب من دراسة اللغة العربية بسبب ثقل علوم الآلة مثل النحو، لأن طرق التدريس تركز على العلم الحرفي الجامد دون ربطه بالمعاني أو بالصور الكبرى له، لذلك فإن دراسة المنطق يجب أن تربط بالمعاني وبالأمثلة الواقعية المعاصرة كما أنها يجب أن تكون سهلة دون تعمق كبير مثل تعمق الدارسين فيه.

هذه المرحلة من دراسة الفلسفة في المدارس، يجب أن توافقها أيضا دراسة الفلسفة في الجامعات، وقد كان هذا موجودا قبل إغلاق قسم الفلسفة في جامعة السلطان قابوس، لكن بعد أن تم ربط الدراسة في الجامعات بسوق العمل وبما يُمكن للتخصص أن يفيد سوق العمل، تم إغلاقه، وليس هذا هو المفترض في الدراسة الأكاديمية، إذ أن العلم يُتعلم لأجل ذاته لا لأجل استخدامه في الوظائف، وعلى الرغم من ذلك، فإن خدمة الفلسفة في سوق العمل يسيرة، فيُمكن أن تكون المناهج المدرسية خالقة للوظائف للمتخصصين في الفلسفة والمنطق، فضلا عن أن هذا يقود لزيادة التخصصات في الفلسفة، فيُمكن لبعض الدارسين التخصص في تدريس الفلسفة للأطفال (بي فور سي) أو غيرها من التخصصات. كما أن فتح الأقسام في الجامعات يُمكن أن يخلق وظائف أخرى، من معيدين ومحاضرين وأساتذة، في دائرة متكاملة، إضافة إلى إمكانية عمل المتخصصين في الفلسفة في المراكز البحثية سواء الخاصة أو الحكومية، وكل هذا ينصب في عملية البناء والتقدم، ولا يضر بها، بل على العكس، فإنه إذا تم تدريس الفلسفة بالطريقة الصحيحة مع وجود المتخصصين فيها والمهتمين بها، وفي حالة تأديتهم لرسالتهم العلمية، فإن هذا قادر على خلق تطور معرفي في المجتمع يُمكن أن يزيد من تسارع عملية التقدم والبناء.

في الأخير، في الخطاب السامي الأخير لحضرة صاحب الجلالة أكد على «استيعاب طاقات أبنائنا الشباب وفتح آفاق العمل والإبداع أمامهم ووجهنا مؤسسات الدولة المعنية بمراجعة منظومة التشغيل وربطها بالقطاعات الاقتصادية والاجتماعية»، ولذلك فإن من فتح آفاق الإبداع الفكري وربط منظومة التشغيل بالقطاعات الاجتماعية، أن يعود الطلبة لصفوف الفلسفة، بما يمنح الفلسفة فرصة لأن تكون حائطا منيعا-بالإضافة للأسباب الأخرى بالطبع- أمام صناعة التطرف، من خلال أدواتها، وما تشكله في العقل من تفكير نقدي، وتحليل ونظرة واقعية.