العيد في شيراز
أبدأ كتابة هذه المقالة وأنا في مركز مدينة شيراز مركز محافظة فارس في إيران، هذه المدينة الموغلة في القدم، ما إن دخلتها إلا ورأيتُ ذلك العالم بجباله وكأني في عُمان، بيد كلما أتقدم أكتشف ذلك العمق الفارسي بلغته وعاداته وطباعه وتقاليده وطرقه وطعامه، أرى هذا يتمايز شيئا فشيئا عن عالمنا وما اعتدنا عليه.
من زيارتي لإيران في العديد من مدنها أقترب تأملا إلى القول إن التدين الفارسي يختلف تماما عن التدين العربي، فالتدين العربي وخصوصا في دول الخليج تدين طقسي تقليدي، والتدين الطقسي بطبيعته كثيرا ما يولد النفاق الاجتماعي، بين قناعات الفرد وسلطة المجتمع المؤثرة في النص الطقسي أكثر من النص ذاته، وانعكاساته على الفرد.
أما التدين الفارسي لا يهتم بالطقوس كثيرا في الجملة، كما أنه لم يفقد تلك الروح الفارسية القديمة رغم دخول الإسلام فيه منذ فترة مبكرة، لهذا انسجم بشكل كبير مع الاتجاه الصوفي والعرفاني الشيعي أكثر من الاتجاهات الكلاسيكية الأخرى، كما كان متناغما مع الاتجاهات الغنوصية الزرادشتية والمندائية واليهودية والكاثوليكية الأرمنية منذ فترة مبكرة، كما انسجم في بعض تياراته مع الغنوصية البابية والبهائية مؤخرا، وأخبرني الدكتور الإيراني محمد سوري، وهو من المختصين في العرفان الشيعي والاتجاهات الصوفية في إيران أن هناك قبولا لفلسفة أوشو بين الجيل الجديد، كما أن هنا انتشار لجماعة صوفي غونابادي أيضا في المقابل الفارسي الشيعي.
رأيتُ هذا من عدة مصاديق ليست مسحية بقدر ما هي تأملية، فإيران مع دخولها في الإسلام، والإسلام جاء من بلاد العرب يحمل كثيرا من الاجتماع البشري العربي، إلا أن فارس ظلت محافظة على روحها المعمارية والفنية واللغوية القديمة، وإن اختلطت مع اللغة العربية إلا أنها ظلت وفق هويتها الإيرانية القديمة.
رأيت التدين الفارسي في الأجيال الجديدة من خلال المسجد والصيام مثلا، كما رأيته في المجتمع الشيرازي من خلال ظاهرة عيد الفطر عندهم مقارنة بعيد النيروز، ففي المسجد لا أرى ذلك الاهتمام الشبابي بفلسفة الصلاة، فعلى قلتها إلا أنه يغلب عليها كبار السن، كما رأيتُ في أواخر رمضان الحالي، وأنا في التاسع والعشرين منه، ما إن وصلتُ شيراز عصرا سألني صاحبي الشيرازي وهو في بداية العقد الثالث من عمره: هل تريد أن تتغدى، وكنتُ فاطرا بسبب السفر، فقلتُ له هل توجد مطاعم مفتوحة، قال: نعم، بعضها مرخصة للمسافرين والسائحين، ولما ذهبت إلى أحد المطاعم المرخصة وجدتها ممتلئة بالناس، فذهبتُ إلى القاعة السفلية، وأخبرني أنه يطلب من هذه المطاعم أن تراعي خصوصيات الصائمين أي لا تكون مكشوفة في الخارج، ويمنع من الأكل في نهار رمضان في الشوارع عدا يوم الثلاثين كما سيأتي سبب ذلك، إلا أن بعض الشباب لا يتقيدون بذلك، وسألتُ صاحبي عن الشباب والصيام، فأخبرني إن النسبة الأكبر من الشباب ممن اختلط بهم لا يصومون رمضان، أو لا يهتمون به، ولكنه اجتماعيا وعلى مستوى الدولة يوجد اهتمام، ولا يوجد فيه مزايا اجتماعية أو دينية عدا بعضهم يقيم ختمة التصديقة، وفيها يختمون قراءة القرآن، وغالبهم في الثامن والعشرين من رمضان، والقليل في صباح التاسع والعشرين منه، وأخبرني أن بعضهم قد يعقبه بصدقة من الطعام.
كما أن من مزاياه عموما في آخره في ليلة العيد ممتدا إلى الصلاة يخرجون صدقة الفطر، وهنا إن كان غالب قوتك الخبز فتخرج عن كل شخص في العائلة ستين ألف تومان، أي يقترب من ستمائة بيسة عمانية، وهذا تقدير هذا العام، فقد يرتفع أو ينخفض بشكل بسيط عادة حسب القيمة السوقية، وحسب قيمة العملة، وإذا كان غالب قوتك الأرز فتخرج عن كل فرد مائة وستين ألف تومان، أي يقترب من ريال ونصف الريال العماني، واجتماعيا عادة يلتزمون بها، ويخرجها القادر، ويعطيها الفقير أو المسكين، ويحبذون توزيعها بأنفسهم، أو يعطونها الجمعيات المختصة بالإعانات المجتمعية، ويخرجها بعضهم قبل يوم أو يومين، أما هو فيقول أنا أخرجها قبل يومين، ولكن لا يصح تأخيرها إلى بعد صلاة العيد.
وفي صباح يوم الثلاثين من رمضان ذهبت إلى مطعم الفندق للفطور لكوني مسافرا، ولأني آخذ بقول الفلك، حيث أرى أن الجمعة هو بداية شوال وليس نهاية رمضان علميا، وإن قصرت جارحتنا عن رؤيته إلا أن العلم قد رآه قطعا، والقرآن جعل الشمس والقمر بحسبان، ورؤية الجارحة وسيلة لا غاية لتحقق المناط.
هذا، وقد كان المطعم ممتلئا بالأسر والشباب، وقد أعلنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية حسب مكتب القائد أي المرشد الأعلى للثورة الإيرانية أن العيد يوم السبت، والجمعة متمم لشهر رمضان؛ لأن رأي الخامنئيّ قريب من الرأي المعمول به عندنا في عُمان، وهو الجمع بين الرؤية والفلك، ويوجد مكتب للاستهلال -حسب تسميتهم- ووفق التقليد الجعفري أن المقلد يصوم ويفطر حسب رأي المرجع لا الرأي الرسمي للدولة المنتمي إليها مواطنة، فعندهم أيضا الآراء الثلاثة الشهيرة، القول برؤية الجارحة (أي بالعين) كما عند السيستاني وبشير الباكستاني، والقول بالجمع بينهما كما عند الخامنئيّ، والقول بالعلم أو الرؤية الفلكية كما عند محمد حسين فضل الله (ت 2010م) قديما، وكمال الحيدري حاليا، إلا أن هناك آراء أخرى كرأي الخوئي (ت 1992م) بثبوت الرؤية في مناطق تشترك ولو بجزء من الليل، وهو رأي إسحاق الفياض من المعاصرين، فتجد أحيانا الأسرة الواحدة منها صائم ومنها مفطر حسب المقلد، ولو في مدينة واحدة، فبشير الباكستاني رأى أن العيد يوم الجمعة، خلافا للسيستاني الذي رأى العيد يوم السبت، وكلاهما من مدينة النجف العراقية، ويأخذان برؤية الجارحة.
إلا أن الوضع يختلف في شيراز، فتجد العديد -خصوصا الشباب- مفطرين في اليوم الثلاثين ليس باعتبار التقليد، فلا يهتمون به كثيرا عادة عند بعضهم، ولكن سماعهم أي دولة فطرت يفطرون معها، وبعضهم القليل أصبح تقليدا اجتماعيا أنهم يكتفون بتسعة وعشرين يوما إن صام رمضان أو بعضه، ولا يعني هذا ممن لا يأخذ بالتقليد، ولكن كما أخبرت من أكثر من شخص هذا هو الواقع، وفعلا رأيت في الطريق وفي المسجد منهم المفطر ومنهم الصائم، ولكنهم يصلون العيد يوم السبت هنا في شيراز حسب رأي مكتب الولي الفقيه هذا العام، وقد تتعدد في بعض الأعوام بشكل قليل.
وبالنسبة لعيد الفطر لا أرى ذلك التقليد الاهتمامي كما هو عندنا في عُمان، من زحمة الأسواق، وشراء الحلويات، وبعضهم يشتري الأنعام لذبحها صباح العيد، لهذا سألتُ بعضهم هنا هل تهتمون بعيد الفطر اجتماعيا، فكان الجواب: الفرس أو العجم لا يهتمون كثيرا بعيد الفطر، خلافا للعرب من خوزستان (عربستان قديما)، أو من المهاجرين من أفغانستان أو باكستان بسبب العمل، أو نتيجة الحرب السابقة، فهؤلاء يلبسون ملابس جديدة في العادة، ويتزاورون في صباح العيد، ويعطون الأطفال (العيدية)، وفي الأهواز وعموم خوزستان قديما يقيمون الأهازيج والأغاني والرقص الخاص بهم، ولي أمل أن أكتب حول عيد الأضحى المقبل في الأهواز وخوزستان عموما.
وأما الفرس أو العجم فيهتمون أكثر بعيد النيروز -أي يوم جديد- أكثر من عيدي الفطر والأضحى، وسبق أن كتبتُ في وسائل التواصل الاجتماعي أن «العديد من الأمم الشرقية تحتفي بعيدهم القومي عيد النيروز، فيحتفي به الإيرانيون والأفغان والترك والأكراد في العراق وسورية وتركيا وأذربيجان وغيرهم، وعيد النيروز له بعد ديني وقومي، أما البعد الديني فعند الزرادشت، والآن عند البهائية حيث أنهوا الصيام ويبدأون به سنتهم الدينية الجديدة ببداية شهر البهاء، كما له بعد قومي عند الفرس إذ يبدأون سنتهم الفارسية الجديدة وفق التقويم الجلالي وهو شمسي هجري، وعامهم السنة بدايته ١ حمل ١401هـ ش، وعيد النيروز يسمى عيد الربيع أيضا عند الأمازيغ وشمال أفريقيا، ويكون في ١٣ يناير، وهو بداية السنة الأمازيغية، ويحمل قريبا من طقوس عيد النيروز الفارسي، ويبدأ تاريخيا بقصة انتصار الأمازيغي شيشنق الأول على فرعون رمسيس الثالث ٩٥٠ ق م، وتقويم سنتهم ١١ يناير ٢٩٧٠ أمازيغي، وهو يشبه أيضا عيد شم النسيم عند الأقباط والمصريين، وهو عيد قومي في ٢٠ أبريل، وبعده عيد الفصح المسيحي، وفي الخليج كان بعضهم تأثرا بالفرس يحتفي بعيد النيروز، وارتبط بالبحر كما في قريات من عُمان، وهو طقس يشبه يوم الزينة في عهد النبي موسى كما في القرآن، وتقاليد الخروج يشبه ما حدث في عهد إبراهيم عندما ادعى أنه سقيم».
ومن تقاليد عيد النيروز عند فرس شيراز أنهم يبسطون الصباح مائدة فيها سبعة أصناف تبدأ بحرف السين، وأما الأولى التفاح، واسمه سيب بالفارسي، وهو رمزية للصحة والسلامة، والثاني سكه أي العملة الحديدية وهي كناية عن التفاؤل للحصول على المال والرزق الحسن، والثالث الساعة أي ساعت بالفارسية وهي كناية عن مظهر دوران العام بصحة وسلامة، والرابع الثوم وهو سير بالفارسي وهو كناية عن رزق المائدة، والخامس الخل وهو سركه بالفارسي وهو كناية عن دوران الأيام بين الخير والشر، والسعادة والشقاء، والسادس نوع من الأدوية والبهارات يسمى سماقه وهو كناية عن بركة المائدة، والسابع نوع من الحلويات يسمى سمانو وهو كناية عن حلاوة العيش والحياة.
وعند الفرس أيضا في عيد النيروز يلبسون الجديد، ويجتمعون صباحا عند أعلى شخص في العائلة، ويعيدون الأطفال، ومنهم الذي عنده قدرة مالية يغير أثاث البيت أو بعضه، ثم يخرجون إلى ضواحي شيراز، تبعد خمسين كيلو مترا من مركز المدينة، ويتغدون عادة على السمك، ويكون خمسة عشر يوما عطلة رسمية من 21 مارس، وبعضهم يتزوج في هذه الأيام، وبعد ثلاثة عشر يوما يكون عيد الطبيعة، وفيها العوائل أيضا تخرج للغداء خارج المدينة، وقد يطبخون السمك أو الدجاج أو اللحم، كما يحضرون حشيش العلف، وتفته البنت غير المتزوجة تفاؤلا بالزواج هذا العام، كما يستخدم العادة غير البنت للتفاؤل، ولكن غلب عادة عند البنات، وهذا يعتبر كما أسلفنا أهم الأعياد عندهم.
ويوم الطبيعة لعله يقترب من عيد الجمبار عند الزرادشت، ويستمر خمسة أيام، وهو عيد مرتبط بالزراعة والتربة والأرض، فيجتمع العديد من الأهل والعشيرة فيه لتناول ما أنبتته الأرض، وهناك أعياد في الأديان والقوميات ارتبطت بالأرض كعيد الشكر في المسيحية الجديدة في أمريكا، ويوافق الرابع عشر من نوفمبر من كل عام، والأديان الإبراهيمية الأربعة السامرية واليهودية والمسيحية والإسلام عموما نجد العيد يلتصق فيها إما بالتأريخ كالقربان وقصة إبراهيم والحج، أو بالصيام والكفارة، وقد يلتصق بالأرض أو سير الأنبياء والرسل والقديسين.
وفي صباح يوم السبت، كان عيد الفطر رسميا في إيران حسب مكتب ولاية الفقيه كما رأينا، وفيه ذهبتُ إلى مزار ضريح علاء الدين حسين بن موسى الكاظم الإمام السابع عند الإمامية، وأخو الإمام علي الرضا الإمام الثامن عندهم، وذلك لأداء صلاة عيد الفطر، ذهبتُ مبكرا، إلا أن المكان كان ممتلئا في الداخل، وفي الأمام رجل يدعو بصوت حزين كعادة الإمامية بلحن فارسي يقترب من اللحن العراقي، وبين فترة وأخرى ينادي أحدهم صلوات، فيصلون على النبي محمد وآله بصوت جماعي مرتفع، ورأيت الناس بملابسهم العادية، فلا يلبسون الجديد، ولا يتكلفون في ذلك، خلاف عيد النيروز كما أسلفنا.
وقبل الصلاة يأتون بدعاء الندبة، وهو من أشهر الأدعية عند الإمامية، ومرتبط بعصر الغيبة، والندبة من الندب أي النياحة لفراق الإمام الثاني عشر أي محمد بن الحسين المهدي المنتظر، ويقفون أثناء الدعاء، وهذا يأتون به أيضا يوم الجمعة من كل أسبوع، كما يأتون به في الأعياد الدينية الثلاثة عندهم: الفطر والأضحى والغدير.
وعند دخول الإمام يأتون بتكبيرات العيد بصوت جماعي، وبلحن فارسي مهيب، يرددون جميعا: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الحمد لله على ما هدانا، وله الشكر على ما أولانا».
ثم يتقدم الإمام لصلاة العيد، وهي عندهم ركعتان بتسع تكبيرات، خمس بعد قراءة سورة في الركعة الأولى وقبل الركوع، وأربع بعد قراءة سورة في الركعة الثانية وقبل الركوع، يفصلون بينهما بقنوت يقولونه بصوت جماعي موحد: «اللهم أهل الكبرياء والعظمة، وأهل الجود والجبروت، وأهل العفو والرحمة، وأهل التقوى والمغفرة، أسألك بحق هذا اليوم، الذي جعلته للمسلمين عيدا، ولمحمد -صلى الله عليه وآله - ذخرا وشرفا ومزيدا، أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تدخلني في كل خير أدخلت فيه محمدا وآل محمد، وأن تخرجني من كل سوء أخرجت منه محمدا وآل محمد، صلواتك عليه وعليهم أجمعين، اللهم إني أسألك خير ما سألك به عبادك الصالحون، وأعوذ بك مما استعاذ منه عبادك المخلَصون».
وقد قرأ الإمام في الركعة الأولى الفاتحة وسورة الأعلى، وفي الثانية الفاتحة وسورة الشمس، وفي أثناء الصلاة يوزعون فطورا خفيفا في أكياس صغيرة يحملونها معهم بعد الصلاة، ولما انتهي الإمام من الصلاة خرج أغلب المصلين، وبقي القليل من سمع الخطبة، وهي خطبتان قصيرتان يجلس بينهما جلسة خفيفة، مذكرة للناس لما بعد رمضان من أهمية في تحقيق منافع الشهر الفضيل.
وبعد الصلاة كانت الحياة طبيعية، ولكونهم في إجازة، تجدهم يذهبون إلى الحدائق كحديقة أرم أو عفيف آباد، أو يذهبون إلى الأماكن السياحية الأثرية كجمشيد عاصمة الأخمينيين، وهي تبعد ساعة عن مركز المدينة، أو نفش رستم، أو بعض المزارات، كما تزدحم المقاهي بالشباب والأزواج ذكورا وإناثا، وأما العرب كما أسلفنا فيهتمون بالتزاور، ويقل هذا عند الفرس كما أخبرتُ.