العولمة بوصفها سيرورة متدرجـة
للعولمة تاريخ رسمي متعارف عليه يعود إلى بداية انطلاق الثورة التـقانية الثالثة: ثورة المعلومات وبداية الرقمنة والبرمجة الآلية، وما سمحت به نتائج هذه من إمكانات هائلة في مجال الاستخدامات الاقتصادية والإعلامية والعسكرية وسواها. ومثلما مهدت لها فتوحات التكنولوجيات الجديدة في ميـدان الاتصال، على نحو ما كـشفت عن ذلك «مبادرة الدفاع الاستراتيجي» الأمريكية- إبان إدارة رونالد ريغان (أو «حرب النجوم» كما أطلق عليها في الصحافة والإعلام) - كذلك اقترن ميلادها بانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين، ابتداء، ثم انهيار المعسكر «الاشتراكي» وانفراط عقد الاتحاد السوفييتي تاليا.
هذا تاريخ رسمي يكاد يكون محل إجماع الجميع. لكن العولمة ظاهرة غير عادية، ولا يتكرر ما يناظرها من الظواهر دائما بحيث تكون واقعة معتادة ويسهل تحديد تواريخ وقوعها في الزمان. هي ليست حدثا عابرا في التاريخ؛ ليست مؤتمرا، أو حربا، أو بركانا أو ما شاكل مما يمكن تعيين زمن حدوثه؛ بل حتى هذه التي ذكرناها لا تنشأ أو تولد فجأة من دون أسباب وسابق عوامل صانعة. العولمة، بالأحرى والأدق، تحول هائل في مجرى التاريخ الإنساني لا يمكن أن يكون مفاجئا أو طارئا، بل لا يمكنه إلا أن يجد لنفسه مقدماته وعوامله وأسبابه في ماض قريب ممتد. والحق أنه بين التناول العادي الدارج لظاهرة العولمة والتناول العلمي بون واسع؛ لأن تاريخ الظواهر وما قبل تاريخها لا يدخل في جملة ما تنشغل به المقاربات العادية الرائجة، وقد لا تدرك قيمته عند من يخوضون في مثل تلك المقاربات. لا بد، إذن، من العودة إلى ما قبل العولمة مما مهد لها وأنضج شروط ميلادها، لأن في مثل هذه العودة ما يطلعنا على الأسباب التي كانت في أساس تلك الاندفاعة الكبرى والهائلة للموجات الأولى من العولمة.
إذا كانت العولمة هي تلك الدينامية (الاقتصادية ابتداء) النزاعة إلى الفيض من مراكزها الغربية على العالم، وإلى إلحاق ذلك العالم بها إلحاق استدماج أو إلحاق تبعية، فإن هذا المعنى للعولمة كان قد ثبت منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، مع استتبات الثورة الصناعية وبداية توسع الرأسمالية خارج الحدود القومية لمراكزها الأوروبية. وما من شك في أن حركة الاستعمار أتت تمثل الوجه السياسي- العسكري من عملية الفيض الرأسمالية تلك. وهذا يعني أن ذلك التعميم الكوني للنظام الرأسمالي ما كان ليصبح ممكن التحقق لولا توسل القوة العسكرية والغزو الكولونيالي لعالم «ما وراء البحار». على النحو نفسه ما كان يسع القوى الأوروبية الاستعمارية أن تنتظر استقبالا طيبا، من شعوب المستعمرات، لجنودها وأساطيلها ونظامها الاقتصادي. لذلك مالت، منذ البداية، إلى ممارسة العنف لمواجهة مقاومة احتلالها العسكري، بالتوازي مع الرسملة، أي الزراعة العنيفة لعلاقات الإنتاج الرأسمالية في بنية الإنتاج القائمة، ولكن مع الإبقاء- في الوقت عينه- على علاقات الإنتاجية التقليدية وإعادة إنتاجها بما هي كابح دائم أمام قيام رأسمالية وطنية مستقلة عن الميتروپولات الأوروبية!
تلك كانت لحظة أولى، ابتدائية، لظهور أشكال جنينية من العولمة في التاريخ المعاصر، لكنها ظلت عولمة ملجومة بطبيعة التطور الذي كان يشهد عليه النظام الرأسمالي في ذلك الحين (قبل ثمانينيات القرن التاسع عشر)؛ حيث كانت الرأسمالية، حينها، ما زالت في طور أول منها هو طور المنافسة الحرة أو المزاحمة. غير أن اندفاعة تلك العولمة الابتدائية ستصير أشد مع انتقال الرأسمالية من المنافسة إلى الاحتـكار، أو ما سيعرف باسم الإمبريالية منذ ذلك الحين (تركز الإنتاج ونشوء التروستات أو الكارتيلات، توحد الرأسمالين الصناعي والبنكي وميلاد الرأسمال المالي، التحطيم الرأسمالي للحدود القومية...). لقد كانت الرأسمالية الاحتكارية ذات قدرة هائلة على تدمير كل الحوائل والحدود أمام المزيد من التوسع، حتى أن هذا الميل الجارف انتهى إلى إنتاج حالة من اصطدام الرأسماليات الكبرى ببعضها، والانتقال بالتعبير عن التناقضات بينها إلى مستـوى انفجاري على نحو ما أفصحت عن ذلك الحربان العالميتان الأولى والثانية.
ما كانت الحرب الثانية قد وضعت أوزارها حتى كان القسم الأعظم من العالم (غير المرتبط بالاتحاد السوفييتي) يشهد على شكل ما من الاندماج في النظام الرأسمالي الذي أصبح عالميا. ومهما قيل عن أن دول العالم ظلت تحترم مبادئ «معاهدة ويستفاليا» (1648)، وفي القلب منها مبدأ السيادة، وأن الأخيرة روعيت في العلاقات الاقتصادية، وفي التبادل التجاري، فإن الذي لا مرية فيه أن هدرا واستباحة تدريجيين لتلك السيادة كان قد شرع فيهما منذ ذلك الحين الذي نضجت فيه شروط سيطرة المراكز على العالم. وما من شك في أن هذه الدينامية العولمية الاقتصادية، التي تعززت بعد الحرب الثانية، وجدت لنفسها ترجمة سياسية في نشوء «منظمة الأمم المتحدة» والسعي في تشكيل «مجتمع دولي» «واحد»، وفرض قانونه (= القانون الدولي) بما هو الأعلى نفاذا وسلطانا من منظومات القوانين الوطنية، بل من حيث هو مرجعية كل قانون وطني. هكذا أتى هذا التتويج السياسي للسلطة الاقتصادية والعسكرية في العالم يكرس الدول الخمس الكبرى (دول حق النقض) سلطة عالمية جديدة فوق كل سلطة قومية، سياسيا وقانونيا، ويكرس ما فرضته من عولمة سياسية بحسبانه نتيجة منطقية لمسار فـتحه المال، والاقتصاد، والتجارة، والشراكات في ميدان الإنتاج متعدد المصادر القومية؛ هذه التي عززتها عمليات انتقال رؤوس الأموال بين البلدان ونشوء شركات متعدية الجنسيات... إلخ.
لا شك في أن أظهر المفارقات، في هذا المعرض، أن فكرة العالم الواحد الموحد، الخالي من الحدود القومية بدأت، في الأساس، فكرة اشتراكية المنبت والمصدر (= الفكرة الأممية). لكن حاملها المادي الفعلي، الذي حملها إلى حيث تجد لنفسها أشكالا من التحقق، هو النظام الرأسمالي الذي فرض سلطانه على العالم، ولا يزال، منذ قرنين ونصف القرن، وشق طريقا نحو عولمة متدرجة وصفنا، في السياق السابق، بعضا من محطاتها الابتدائية. ومن المفارقات، أيضا، أن لحظة الانعطاف الكبرى التي قادت إلى انبثاق عهد العولمة، في نسختها النوعية الجديدة، لم تكن تنتظر - كي تبصر النور- حدثا ضخما مثل ثورة المعلومات فحسب، بل انهيار معسكر الدول الذي قام باسم الفكرة الاشتراكية؛ وكأنما كان على فكرته الأممية الجهيضة أن تتبدد كي تسجل العولمة، الزاحفة في ركاب الرأسمالية، انتصارها!
من المفارقات أن لحظة الانعطاف الكبرى التي قادت إلى انبثاق عهد العولمة، في نسختها النوعية الجديدة، لم تكن تنتظر - كي تبصر النور- حدثا ضخما مثل ثورة المعلومات فحسب، بل انهيار معسكر الدول الذي قام باسم الفكرة الاشتراكية؛ وكأنما كان على فكرته الأممية الجهيضة أن تتبدد كي تسجل العولمة، الزاحفة في ركاب الرأسمالية، انتصارها.