العنف الجندري.. التسييس وإشكاليات التصنيف
مدخل (1) عن التصنيف
يلجأ الدارسون، وصنّاع السياسات إلى الإحصائيات لفهم والتعامل مع الظواهر الاجتماعية. لكن الأرقام لا تكشف دائما انتشار ظاهرة ما بالدقة التي نأمل. إحدى التحديات لها علاقة بالفجوة بين المجموعات فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية والقدرة على الوصول للموارد. مثلا، مقال لسارا نوفاك (Sara Novak) منشور على عدد يونيو من Scientific American بعنوان «Suicides among Black People May Be Vastly Undercounted» يعالج فشل التقارير والإحصاءات في رصد الأعداد الحقيقية للمنتحرين الملونين في أمريكا. عند حدوث حالات انتحار يصعب التفريق بين ما إذا كان الأمر مجرد حادث أو محاولة فعلية للانتحار. الرجوع للتاريخ المرضي للمنتحر يسهل حسم المسألة التصنيفية هذه، لكن هناك الكثيرون ممن لا تتوفر لهم رفاهية العلاج النفسي. معظمهم من المجموعات المهمشة. مما يعني أن كثيرا من الحالات التي تُعد حوادث هي في الواقع حالات انتحار. وبهذا تفشل تقديرات عدد المنتحرين لدى هذه المجموعات مما يؤثر على السياسات التي يُمكن أن تُوضع للتعامل مع الأمر. أضع هذا المثال هنا لتوضيح الإشكاليات المتعلقة بالتصنيف عند تناول انتشار ظاهرة ما.
مدخل (2) عن الفجوة بين الانطباع والواقع
يحدث كثيرا أن يُعطي التهويل الإعلامي، والاهتمام الشعبي الذي تلقاه بعض القضايا انطباعا بانتشار ظاهرة، على نحو لا يتوافق مع الانتشار الفعلي للظاهرة. في إحدى المحاضرات المعنية بالدراسات الإحصائية شرح الخبير تجربته مع دراسة ظاهرة الرشوة في مصر. فبالرغم من أن أغلبية المصريين تحمل انطباع انتشار الرشاوي، إلا أن الذين اختبروا فعليا تجربة تقديم أو استلام الرشاوي هو عدد ضئيل لا يتوافق مع الانطباع العام بكونها ظاهرة سائدة. لستُ هنا بصدد الحكم على نتائج أو منهجيات مثل هذه الدراسة، إنني فقط أُشدد على فكرة نجاح القصص المتناقلة والإعلام في تهويل الظواهر.
أبو لغد والعنف الجندري
تعمل ليلى أبو لغد حاليًا أستاذة في علم الأنثروبولوجيا ودراسات المرأة والنوع الاجتماعي في جامعة كولومبيا. تناقش أبو لغد في كتابها المهم «هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟» كيف استثمر موضوع حرية المرأة لشن الحروب على الشرق (أفغانستان والعراق). وتنتقد التأويل الثقافي لمحنة النساء في الشرق الأوسط أي رده لأسباب ثقافية ودينية، فيما الأولى هو مراجعتها ضمن سياق سياسي/تاريخي. ترى الكاتبة أنه تمت أيقنة الحجاب لما يثيره من غرابة في الذهنية الغربية وجعله «رمزا لسلب إرادة المرأة». تنتقد أبو لغد تجاهل السياق المحلي عند تناول وضع النساء في الشرق. تستند -مثلا- إلى الدراسات التي ترى البرقع -وهو لباس بشتوني تقليدي - باعتباره وسيلة تحرر أعطى نساء البشتون حرية التنقل في الفضاء العام. وهو يُصبح وفق هذه القراءة أداة مقاومة لا قمع. فوق هذا فإنها تؤكد على أن التقارير التي تصلنا عن محنة المرأة الافغانية أثناء الوجود الأمريكي في أفغانستان ليس كشفا لأهوال التقاليد الإسلامية، بل كشفا لأهوال الحرب وما تؤدي إليه من أزمات اجتماعية واقتصادية.
إلا أني - ورغم أهمية طرح أبو لغد - سأكتفي بالتعليق هنا على الفصل الرابع المعنون بـ«جاذبية جرائم الشرف». نحقق بشكل محدد في السؤال الآتي: هل لجرائم الشرف خصوصيتها، أم أن الأجدر أن يُنظر إليها باعتبارها جرائم عنف أسري (هذا النوع من الجرائم الذي ينتشر في الغرب مثله مثل الشرق)؟
ما يجب أن يُنقد وما يجب أن يُقبل
تُجادل أبو لغد أن جرائم الشرف لا تختلف عن جرائم العنف الأسري. تقول: «العنف الذي يحصل في مجتمعات معينة يتم ربطه مباشرة بثقافتها وأما إذا حصل في مجتمعات أخرى فيتم الاكتفاء بإدانة مرتكبه أو مرتكبيه» لا إدانة الثقافة التي ينتمي إليها الجاني. وخطورة النظر إلى جرائم الشرف باعتبارها حالة خاصة هو في «التمايز» الذي تصنعه بين ثقافتنا وثقافة الآخر.
الشق الأخطر من محاججتها يتعلق بمفهوم الشرف نفسه. إنها ترى في هذه القيمة - التي هي محور النظم الأخلاقية في بعض المجتمعات، والتي تُلزم الذكور كما تُلزم الإناث بالمناسبة- قيمةً يجب تفهمها، ووضعها في سياقها. إنها تكاد ترى فيها قيمة أهم من الاختيارات الشخصية.
ليس لجرائم الشرف أصل ديني، لكن لها أصل ثقافي من حيث إنها مرتبطة بتقاليد وقيم قبلية. وخصوصيتها نابعة من فكرة أنها تتم -على عكس منابع العنف الأخرى مثل الغيرة- لـ «إنقاذ شرف العائلة».
قد يصح أن الإحصائيات والتقارير التي تُنشر حول جرائم الشرف نابعة من خلل إحصائي وخطأ في التصنيف (كما في حال معدلات الانتحار لدى السود). بمعنى أن جريمة العنف الأسري عندما تتم بيدي مواطن أو مهاجر شرق أوسطي تُوضع دون مزيد من التقصي حول الملابسات في خانة جرائم الشرف. كما قد يصح أن انتشارها نابع من الانجذاب الفنتازي الإعلامي لمثل هذه القصص، ولا يتماشى مع الأعداد الحقيقية للضحايا. هل ينفي هذا الخطأ في التصنيف أو المبالغة في تعاطيها (إذا صدقنا بذلك) وجود هذا النوع من الجرائم وفرادة نوعها ضمن التصنيف العام لجرائم العنف الأسري؟ بالنسبة لي فإن جرائم الشرف تكتسب خصوصيتها من أنها مُبررة ضمن بعض الأنظمة الأخلاقية التقليدية. وإن كانت غير مقبولة بشكل عام. وعليه فما يجب أن يُنقد في هذا الموضوع هو التسرع في وضع أي جريمة أو تجاوز يرتكبه إنسان شرق أوسطي ضمن هذا التصنيف. ما يجب أن يُنقد هو تجنيد هذه الظواهر وغيرها لشن الحروب، أو معاداة المهاجرين. وهذا النقد لا يجب بأي حال أن يترافق مع التقليل من الدور الثقافي للعنف الأسري في مجتمعات معينة. ولا يجب بأي شكل الدفاع عن هذه الثقافة باعتبارها طريقة عيش يجب احترامها. كما لا يجب أن يُنظر لقيم الحرية والمساواة باعتبارها مُنتج غربي. «رياح التغيير» لا تأتي بالضرورة من الغرب، يُمكن لأي امرأة مقهورة التأمل في حالها ومحاولة تغييره. في إصرار أبو لغد على الدفاع عن الأنظمة الأخلاقية المحلية -بل وتبجيلها- سهو عن حقيقة أن هذه أنظمة خاضعة للتغيير بطبيعة الحال.
أفهم -بل وأتفق تماما- مع رغبة المؤلفة المحاججة ضد التدخل الغربي باسم حرية المرأة. خصوصا وأن هذا الكتاب موجه للخارج (للغرب). ما لا أفهمه هو كيف تلوم الحركات المحلية المدافعة عن حقوق النساء في الشرق الأوسط، أو تلوم الناجيات في التعبير عن تجربتهن أيا يكن شكل هذا التعبير، أو رغبتهن في مساعدة أخواتهن بالطريقة التي يرتئينها. وفي دعوتها لناشطات الشرق الأوسط إلى الحذر انشغال بكيف يُمكن أن تبدو هذه الحملات للخارج وكيف يُمكن أن تُسيس، يعلو على انشغالها بمصير النساء.