العنصرية العلمية
في مقالها المعنون بـ "قصة لن نصدقها بالضرورة" المنشور بتاريخ 10 نوفمبر على جريدة عُمان، تجادل أمل السعيدي بأن علينا أن نقف موقف شك من نتائج الأبحاث العلمية التي تتعارض مع منظومة القيم الإنسانية المعاصرة، والتي يُمكن أن تُستثمر لتسويغ مواقف غير أخلاقية، كالانتقاص من الأقليات (السود، النساء) بناءً على السرديات العلمية. يتساءل المقال عن الأسباب التي تجعلنا نطمئن - مثلا - إلى موثوقية القصص التي يقدمها لنا علم النفس التطوري.
هناك نماذج في التاريخ الطبيعي لمجالات علمية - اُستند عليها لتبرير الاختلافات بين البشر على أسس بيولوجية - تبين لاحقا عدم دقتها، بل أنها تُعد اليوم علوما زائفة Pseudoscience. ما الذي يجعلنا نعتقد بصحة علوم اليوم التي تُقدم تفسيرات منحازة، ألا يُحتمل أن يثبت قريبا أنها مجرد علوم زائفة بدورها؟
العلم العنصري
تشير معدلات اختبارات الذكاء - حتى اليوم - إلى فجوة أداء بين الأمريكان الأوربيين والأمريكان الأفارقة خلال القرن التاسع عشر ساد الاعتقاد بأن هذه الفجوة تعود لاختلافات جينية بين الأعراق. ووُظفت تقنيات مثل القياسات البشرية Anthropometry وفراسة الدماغ Phrenology - التي كانت أساليب علمية معترفا بها وقتها - لتوفير أدلة تجريبية على صحة هذه الفرضية. أساس النظرية أن الأعراق البشرية لم تتطور عن أصل واحد، بل عن أصول عدة. ذهبت هذه النظرية إلى حد افتراض أن بعض الأعراق البشرية أقرب نسبا إلى الشمبانزي منها إلى الإنسان المعاصر.
يُعد الطبيب وعالم الطبيعة صامويل جورج مورتون أحد رواد فراسة الدماغ هذه، والتي تُعنى بدراسة السمات الشخصية عبر قياس حجم وشكل جمجمة الإنسان. جمع مورتون وحلل بيانات المئات من الجماجم، وخلص إلى أن البيض يمتلكون أدمغة أكبر من السود في المتوسط، مما يؤكد فرضيته بأنهما لا ينتميان لأصل مشترك. يمتلك الزنوج - حسب مورتون - أصغر الجماجم ضمن الأعراق المدروسة، مما يعكس صغر أدمغتهم، وبالتالي محدودية قدراتهم العقلية.
في كتابه القياس الخاطئ للإنسان (1981) The Mismeasure of Man، أعاد عالم الأحياء التطوري ستيفن جاي غولد تحليل نتائج مورتون وخلص إلى أنه في المتوسط يتساوى حجم جماجم السود والبيض. عزا غولد ما انتهى إليه مورتون لتحيز عنصري أدى به - دون وعي على الأغلب - للخروج بنتائج تتوافق مع معتقداته.
هذا أولا، ثانيا أن حجة موتون - كما يقول في مقابلة له - مبنية على أربع مقدمات أساسية، نفي أحدها كفيل بدحض حجته. (1) وجود رقم وحيد قادر على تمثيل ظاهرة الذكاء بالكامل، (2) إمكانية ترتيب الأفراد خطيا بناء على هذا الرقم، (3) أن تكون قيمة الرقم قابلة للتوريث بشكل كبير، (4) أن يكون الرقم ثابتا وغير قابل للتغير، ألا يكون ذا صلة بجودة التعليم مثلا، أو الظروف البيئية، أو التجارب الشخصية. يصعب التسليم بالمقدمة الأولى، ويدعي كثيرون أن اختزال الذكاء بتعدد معانيه، وعبر أدوات قياس محدودة - كالاختبارات المكتوبة التي تتوسل اللغة سبيلا للاستقصاء - تمثيل بعيد كل البعد عن الشمولية والكمال. أما بخصوص المقدمة الرابعة، فتواصل الأبحاث التي تدرس فجوة الأداء بين البيض والسود، تُشير إلى تقلصها مع تحسن التعليم من جهة، وإلى أن للبيئة دور أكثر في تحسن الأداء - من جهة أخرى - فالأمريكان الأفارقة الذين ينشؤون في أسرة أمريكية أوروبية يقدمون أداء يُعادل أقرانهم البيض في المتوسط. وهكذا، فبتحليل حجة مورتون ودون الحاجة إلى الكثير من الأدلة التجريبية، يتجلى ضعفها.
تفسير الفارق في درجة الذكاء بشكل عام إما أن يعزى لعوامل طبيعية أو بيئية. غولد هو أحد المنتقدين الشرسين للحتمية البيولوجية، وهو يؤمن أن الفارق ليس بالضرورة نتيجة لفارق بيولوجي جوهري في الإمكانيات الذهنية، وإنما لفارق في تغذية هذه الإمكانيات نتيجة عدم تمتعهم بامتيازات التعليم والرعاية التي توفرت لنظرائهم.
موضوعية العلم
يرى غولد أن الانحياز أمر لا مناص منه في العملية العلمية. يقول في كتابه (وأنا أُترجم هنا): "الحقائق ليست مجرد أجزاء نقية من المعلومات؛ إذا تؤثر الثقافة بدورها على ما نراه وكيف نراه. علاوة على ذلك، فالنظريات ليست استدلالات صارمة مبنية كليا على الحقائق. النظريات الأكثر إبداعًا غالبا ما تكون رؤى تخيلية مفروضة فرضا على الحقائق. مصدر الخيال هو أيضًا ثقافي بقوة." يعتقد غولد أن مفهوم الحقيقة خالٍ من المعنى خارج افتراضاتنا الثقافية.
لعل نفي موضوعية العلم هو أحد أهم منتجات فلسفة العلم النسوية التي تؤكد أن النظريات في الغالب تأتي بروح تتفق مع الاتجاهات العامة، وتتماشى مع القيم الاجتماعية. يُنظر إلى افتراض الموضوعية التامة في الممارسة العلمية اليوم على أنه موقف ساذج.
لكن الثقافة ليست مصدر التهديد الوحيد لموضوعية العلم، تهديد آخر - ولعله أهم - يأتي من تسليع العلم، حيث يُطالب العلماء في هذا النموذج بالقيام باكتشافات لها قيمة سوقية، أن يخرجوا ببراءات اختراع تضمن احتكارهم للتقنيات الجديدة. يُطالب علماء النفس بدراسة سلوك المستهلكين وتحليله؛ للخروج بآليات يمكن توظيفها في الخوازميات المختلفة لإبقاء المستخدمين منخرطين لأطول وقت ممكن. فوق ذلك، فنتائج الكثير من الأبحاث مرتبطة بمن يمولها.
الظريف في قصة الصراع بين مورتون وغولد، أن غولد اُنتقد لاحقا لأنه أساء تمثيل نتائج مورتون، وكأنه بذلك أثبت وجهة نظره عن حتمية الإنحياز (غير الواعي خصوصا) في الممارسة العلمية باعتباره شخصيا نموذجا لذلك. ينتمي هذا الصراع إلى الماضي، وتُعد التقنيات التي استخدمت وقتها علوم زائفة اليوم، إلا أن سؤال الموضوعية ما يزال قائما.
خلاصة الأمر أنه يجوز التشكيك في النتاج العلمي إذا ما بدا أنه منحاز ضد فئة معينة. إذا ما بدا أن "حقيقة" علمية تتعارض مع موقفك الأخلاقي، اتبع بوصلتك الأخلاقية وإن لم تملك الأدوات لدحضها علميا. يمكن تبرير هذا الموقف بأخذ "سعر الخطأ" في الاعتبار، فالسعر الباهض الذي تدفعه البشرية باتباع نتاج علمي منحاز يفوق الفائدة التي قد تُجنى من تفعيل هذه "الحقائق" ووضعها محل استخدام. هذا من جهة، من جهة أخرى حتى وإن ضمنا صحة الطريقة العلمية التي تؤكد ادعاءً علميا ما (لنقل دراسة إحصائية جندرية أو عرقية)، فهذا لا يُعطي الحق في استخدامها للحكم على فرد ينتمي للجماعة المدروسة. مثلا، الإحصائيات التي تُشير إلى أن نسبة الملونين في السجون تفوق نسبة البيض لا تؤكد دونية بيولوجية (أن السود أشد عدائية من سواهم)، بل تؤكد تمييز أنظمة القضاء ضدهم، والتفرقة التي يمارسها النظام العام تجاههم.
أما بخصوص سؤال التفريق بين العلم واللاعلم (العلم الزائف) فيما يُطلق عليها مشكلة الفصلDemarcation problem فأترك هذا الموضوع لمقال قادم.