العمل التطوعي ابتكار وتطلُّع
يحدثنا تقرير حالة التطوُّع في العالم 2022 (بناء مجتمعات متساوية وشاملة) الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للمتطوعين، عن دور التطوَّع في تعزيز العلاقات بين الناس والدولة؛ حيث يشجِّع على تفعيل الحوكمة، ويُعزِّز الاستقرار، فالمتطوعون في جميع أنحاء العالم يقيمون "شراكات أوثق مع السلطات الحكومية لمجابهة التحديات الإنمائية العاجلة، من تغير المناخ إلى فقدان النظام البيئي والتنوع البيولوجي وآثار جائحة كوفيد19".
إن التطوُّع يعيد تشكيل العلاقات طويلة المدى بين الحكومات والمجتمع، وبالتالي فإن التعاون بين المتطوعين والحكومات يساعد في "بناء ثقافة صنع القرار التعاوني" – حسب التقرير -، الأمر الذي يُفسِّر الاهتمام العالمي بالعمل التطوعي باعتباره شريكا تنمويا؛ حيث يمثل عقدا اجتماعيا بين المتطوعين ومجتمعهم يتأسس على العطاء والخدمة المجتمعية، ويتطلع إلى الشمولية والابتكار والاستدامة.
يستعرض التقرير حالة التطوُّع في العالم من حيث ماهية التعاون بين المتطوعين والمتطوعات مع السلطات الحكومية، ويستطلع الأدوار المهمة والمتنوعة التي يؤديها المتطوعون في صنع القرار، وفي الإنتاج المشترك للخدمات، وفي وضع حلول مبتكرة للمشكلات الاجتماعية والتحديات الاقتصادية التي تواجه المجتمعات. علاوة على ذلك فإن "الشراكات بين مجتمع المتطوعين والدولة تعالج المخاوف الإنمائية وتلبي احتياجات المجتمعات المحلية..." – بتعبير التقرير -، وبالتالي فإن هذه الشراكات تساعد على (إعادة توجيه التنمية) من خلال تحديد أولويات القضايا المهمة في المجتمع.
ولأهمية العمل التطوعي فإن المجتمع العماني عُرِف منذ القدم بالتكافل الاجتماعي الذي أسس للعمل التطوعي، وقد أولت الدولة منذ عصر النهضة الحديثة اهتماما كبيرا بالعمل التطوعي الرسمي وتنظيمه وأصدرت التشريعات والسياسات التي تطوِّر الخدمات التطوعية؛ فتم إنشاء الجمعيات الأهلية العامة والمهنية، التي أسهمت وما زالت في ترسيخ قيم العمل التطوعي من ناحية، والمشاركة الفاعلة في تحقيق أهداف التنمية الوطنية من ناحية أخرى، بالإضافة إلى ذلك فإن (جائزة السلطان قابوس للعمل التطوعي) تُعد أحد أهم مظاهر هذا الاهتمام الذي ترسَّخ في فكر المجتمع العماني.
إن العمل التطوعي في عُمان يمثل ركيزة أساسية من ركائز التنمية الوطنية، التي تأسست على الشراكة، والمواءمة بين الأولويات المجتمعية والأهداف المستقبلية، ولهذا فإن المجتمع العماني قائم على فكر العمل التطوعي، الذي لا نجده في المؤسسات التطوعية الرسمية وحسب بل حتى غير الرسمية التي يؤسسها الأفراد والجماعات خاصة في أوقات الشدة مثل (الأعاصير، والأنواء المناخية المختلفة، أو حتى في مراحل تفشي كوفيد19، وغير ذلك). فممارسة العمل التطوعي في عُمان ناتج عن فعل المواطنة القائم على الالتزام والمشاركة، وبالتالي فإن هذا الفِعل يكشف الوعي التام والقدرة على التكافل الاجتماعي.
وإذا رأينا ممارسة العمل التطوعي في المجتمع العماني في أوقات الشدة، والتكافل الاجتماعي والاقتصادي، فإن علينا أن نراه اليوم في أشكال مختلفة؛ ذلك لأن التطور التقني والتكنولوجي، أظهر الحاجة إلى التطوُّع النابع من فعل المواطنة، فهناك الكثير من التحديات التي تواجه المجتمع ومنظومته الاجتماعية والثقافية عبر المواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت تُشكِّل تحديا للمجتمعات. إن العمل التطوعي وفق منظوره الحديث يتأسس على قدرة المتطوعين على فهم الرؤى التنموية للدولة، وبالتالي قدرتهم على المشاركة الفاعلة في تنفيذ هذه الرؤى من خلال الممارسة والمشاركة والإجراء.
لقد أدى التطور التكنولوجي الحديث وانتشاره إلى تنوُّع الوسائل والطرق التي يسهم بها المتطوعون؛ حيث يمكننا رؤية الكثير من المواقع الإلكترونية الشخصية التي تم تصميمها باعتبارها فعلا تطوعيا يهدف إلى دعم الأهداف التنموية للدولة، فمنها ما يعزز القطاعات السياحية والثقافية، ومنها ما يُسهم في توعية المجتمع وتحديد الأولويات المجتمعية التي يتم التركيز عليها، وبالتالي فإن مثل تلك المواقع تندرج ضمن العمل التطوعي غير الرسمي، والذي يُعد اليوم وفقا للمنظور الحديث أكثر قدرة على التأثير، لأنها نابعة من المسؤولية الفردية والمواطنة.
يتخذ العمل التطوعي أشكالا متعددة سواء أكانت خدَمية، أو مشاركة، أو أنشطة، أو حملات، وكلها أشكال أسهم التطور التقني في تنوعها وتفرُّعها، لتكون فاعلة، ومؤثرة في تحقيق أهداف التنمية المجتمعية وفق منظور إنمائي، يجعل من الأهداف الوطنية غاية، ولهذا فإن العمل التطوعي لا يرتبط بتلك الشراكة والعلاقة الاجتماعية بين أفراد المجتمع في نطاقه الضيق وحسب، بل بينهم وبين المجتمع المحلي كله، بل وبين المجتمع الخارجي الإقليمي أو الدولي. إنها المسؤولية الاجتماعية التي تربط بين أفراد المجتمع التقني بما يسمى بـ (المواطنة التقنية)، التي تؤسس لممارسة العمل التطوعي باعتباره منظورا إيجابيا وفهما عميقا لآفاق الرؤى الوطنية والعالمية التي ينشدها الإنسان على هذا الكوكب.
تكشف (خطة العمل لإدماج العمل التطوُّعي في خطة عام 2030. تقرير تجميعي عالمي) الصادرة عن الأمم المتحدة، أن العمل التطوعي اليوم يُنظر إليه باعتباره وسيلة تنفيذ للأهداف والرؤى تتسم بالقوة وتنوُّع مجالاتها، حيث "يمكن للعمل التطوعي أن يتوسَّع وأن يحشد جهود المجتمعات ويُشرِك الناس في التخطيط الوطني وفي جهود تنفيذ أهداف التنمية المستدامة" – بتعبير الأمم المتحدة -؛ فالمتطوعون يمكنهم المساهمة الفاعلة في تقريب وجهات النظر بين الحكومات والشعوب، شرط أن يكونوا على وعي تام بالأهداف والرؤى الوطنية التي هم شركاء فيها.
إن العمل التطوعي بمفهومه الحديث يشكِّل ممارسة متغيرة ومعقدة؛ فإذا كان الرسمي منه أو المؤسسي المتمثل في الجمعيات المختلفة، يتصف بالنظام والرؤية إلى حد ما، فإن العمل التطوعي الفردي يواجه الكثير من التحديات خاصة في خضم التطورات التقنية الواسعة، ولهذا فإنه من الضروري قياس تطوراته وتغيراته التي تطرأ على المستويين القريب والبعيد، ونطاق تلك الأنشطة، وقدرتها على المساهمة الفاعلة في تحقيق الأهداف التنموية للدولة؛ فالنطاقات التي يعمل ضمنها المتطوعون واسعة، ووعيهم بالرؤى الوطنية متفاوت، وقدرتهم على الممارسة مختلفة، ولهذا فإن الأنشطة والخدمات التي يقدمونها ناتجة من تلك النطاقات، وذلك الوعي، وتلك القدرة.
ولهذا فإن خطة العمل التي أعدتها الأمم المتحدة قائمة على متغيرات خمسة هي (الموقع، والبنية، والكثافة، والطموح، والفئة)، وهي متغيرات تعتمد على قدرة المتطوعين وآفاق رؤيتهم، وفهمهم، لتمثل (دورة حياة العمل التطوعي)، الذي يهدف إلى دعم قدرة الناس على المساهمة في "الإنجازات في مجالات التعليم والصحة والحوكمة وسبل العيش المستدامة والأمن والسلِم والبيئة والعمل الجنساني والشمول الاجتماعي" – بحسب الأمم المتحدة -، لذلك فإن هذه الخطة تقوم على تعزيز مسؤولية المجتمع في تحقيق أهداف الخطة التنموية، وإمكانات مساهمتهم الفاعلة في المضي قدما في تنفيذ تلك الخطة.
يمثل العمل التطوعي اليوم أهمية كبرى من الناحية التنموية، خاصة في ظل التحديات التي تواجه الدول على المستوى المحلي والأزمات التي تعصف بالعالم على المستوى الدولي، ولهذا فإن الاهتمام بآفاق العمل التطوعي، وتنظيمه وقياس أثره من الأولويات الوطنية التي تؤسس لما يُسمى بـ (الابتكار الاجتماعي)؛ الذي يُشير – بحسب الأمم المتحدة – إلى "استحداث أفكار أو عمليات جديدة تهدف إلى سد الثغرات..."؛ فالتحديات والمشاكل الاجتماعية، والأزمات المختلفة، تدفع المجتمع والمؤسسات التطوعية إلى (التفكير خارج الطريقة المعهود وتنفيذ مبادرات جديدة وشاملة).
وبهذا المعنى فإن الابتكار الاجتماعي يجعل (الأهداف الاجتماعية والسياق المحلي في صميم عمله). إنه الفعل المجتمعي الأكثر شمولا والأوسع رؤية، والقادر على اتخاذ نهجا أكثر ابتكاراً في دفع الإدماج الاجتماعي والمشاركة الفاعلة من أجل تلبية احتياجات المجتمع، وتعزيز الممارسات الإيجابية الداعمة للخطط التنموية للدولة، ولهذا فإن العمل على تمكين المجتمع وتعزيز دوره الفاعل من خلال العمل التطوعي، سيُعزِّز فعل الابتكار الاجتماعي، ويدعم إمكانات المتطوعين ويعمِّق فهمهم لدورهم التنموي.
إن العمل التطوعي الذي ننشده يقوم بنا جميعا، وبمنظورنا التنموي، وفهمنا لتطلعات وطننا، فلنسهم بإيجابية، ولنعمل بشراكة، فرؤية مجتمعنا لا تقوم إلاَّ بنا....