العلم وأشباهه
يصعب التصديق اليوم أن قراءة الأبراج كانت علما معتمدا. مثلها مثل فراسة الدماغ "التي تُعنى بدراسة السمات الشخصية عبر قياس حجم وشكل جمجمة الإنسان"، أو الطب التجانسي. الطب التجانسي "الهوميوباثي" هو نوع من الطب البديل الذي يعتمد على مبدأ "داوها بالتي كانت هي الداء" أو "المثل يُعالج المثل" وفقا لأبقراط.
يُدرس هذا العلم في جامعات أوروبا وأمريكا، في الهند وباكستان، ويُزاول في كثير من دول العالم. لتطوير العقاقير وفق مبادئ الطب التجانسي، على المُزاول تحديد المادة المسببة لمرض ما، ومن ثم إنتاج علاج له باستخدام المادة نفسها "أو مادة مماثلة تثير في الشخص السليم أعراضًا تتطابق مع أعراض المرض الذي يُزمع علاجه"، وذلك عبر تخفيف تلك الكمية الدقيقة في محلول تخفيفا يُزيل الأثر المرضي للمادة.
تُشير الأبحاث التي أُجريت لاكتشاف ما إذا كان للطب التجانسي أي مفعول، أن له بالفعل أثرا إيجابيا، إلا أن هذا الأثر لا يمكن أن يُعتد به لأنه لا يتجاوز الأثر الوهمي (بلاسيبو). فعند اختبار أي نوع جديد من العلاجات في التجارب المقارنة، عادة ما يُظهر بعض المتلقين للدواء تحسنا يرتبط بتوقعاتهم، بالرغم من انتمائهم للمجموعة المرجعية التي تناولت دواءً وهميا.
رغم أنه يُنظر إلى الطب التجانسي على أنه نوع من الدجل، إلا أن قيمة السوق تُقدر بملايين الدولارات، وشعبيته تتعاظم مع ازدياد شعبية المنتجات الطبيعية والعلاجات البديلة. وعليه فنحن نسأل اليوم ما الذي يجعل الطب التجانسي "أو أي نوع آخر من العلوم" علمًا زائفا؟
العلوم الزائفة الحديثة قد تكون زائفة طبقا لشروط هذا العصر لأنها طُورت قبل عصر العلم. مثل ذلك العلاج بالإبر الصينية، التنجيم "قراءة الأبراج". لكن هناك علوم جدلية أخرى ظهرت في عصر العلم، لكنها صُنفت لاحقا على أنها علوم زائفة، وذلك لأنها تتبع الطريقة العلمية في بعض نواحيها، إلا أن المسلمات أو المقدمات التي ترتكز عليها نظريات هذا العلم الزائف لا تستند على أدلة منطقية أو علمية كافية للتصديق بها، ومثل ذلك الطب التجانسي.
لكن كيف يمكن للواحد منا أن يُفرق بين العلم واللاعلم؟ متى يُمكن أن تُوصف نظرية ما على أنها علمية؟ ما هي خصائص النتاج العلمي؟
رغم أن العلوم الزائفة استخدمت - وما تزال - كأدوات للدفع بأجندة معينة، أو مبررات لتسويغ اضطهاد عرق أو نوع معين، إلا أن دوافع تطويرها في الأصل ليست سيئة النية دائما، ومطوروها في الغالب غير واعين بهشاشة المسلمات التي تُبنى عليها. وعليه فالتحقيق في تاريخ العالِم أو المجتمع العلمي الذي يقف وراء نوع مشكوك فيه من العلوم لا يساعدنا بالضرورة في الكشف عن جودة الممارسة العلمية (أو ما يبدو أنها علمية). وبالتالي فالجواب البديهي هو بالنظر إلى العملية التي تُنتج من خلالها المعرفة، واستقصاء ما إذا كانت ممارسة تجريبية مستندة إلى الطريقة العلمية.
لعل أحد أهم فلاسفة العلم الذين كرسوا جهدا هائلا لإجابة هذا السؤال هو كارل بوبر. إذ إنه لم يجد الإجابات المتاحة وقتها شافية. إذ أراد أن يتجاهل النتائج النهائية، عارفا أن العلم يخطئ، وأن العلم الزائف قد يتعثر بالحقيقة مصادفة. كما أراد أن يتجاهل العملية، ووجد أن الالتزام بالطريقة العلمية المبنية على الملاحظة والتجريب هو معيار غير مُرضٍ لفصل العلم عن اللاعلم. فالتنجيم على سبيل المثال يعتمد على أدلة تجريبية قائمة على الملاحظة الدقيقة لمواقع ومسار الكواكب. كبديل عن ذلك اقترح بوبر أن تكون "قابلية الدحض" هي المعيار.
هناك نظريات ينبع اهتمام العلماء بها - مثلهم مثل العامة - لأنه يبدو أنها تُفسر شيئا ما، أنها تأتي بما يُشبه الكشف، وهي تمنحك - إذ تتعرض لها - الأثر اليوريكي للحظة الـ"آها!". ويبدو فجأة أن كل ما تتعرض له يُبرهن على حقيقة هذا الكشف. لكن لا يجب أن تعمينا نشوة الفهم هذه عن حقيقة أن التفسير المقترح قد لا يكون بالمتانة التي نرجوها. وأن الأدلة التي يبدو أنها تؤكد النظرية، هي أدلة منتقاة أولا، وهي ثانيا تُقرأ في ضوء النظرية لا بمعزل عنها. فأنت إذا ما حاولت دراسة السلوك الإنساني بأدوات موضوعية، فإن مسعاك هذا سيثمر عن توصيف لحركات واستجابات عشوائية عديمة المعنى. موضوع بحثك هو ما يخبرك أين تنظر، وعما تتغاضى. وإذا ما بدا أن النظرية تُفسر كل شيء، أو أن أي ملاحظة تقريبا يمكن أن تفسر وفقها، فهذا قد يكون دليل ضعف لا قوة.
يرى بوبر إذا أن النظرية العلمية هي نظرية قابلة للدحض، وأن الممارسة العلمية هي محاولة متواصلة لإثبات خطأ النظرية لا صحتها، وأن التقدم العلمي يأتي من صمود النظرية أمام الكشوفات الجديدة التي تهددها باستمرار. أي نظرية تأتي دون قيد أو شرط يدحضها متى ما تحقق، هي نظرية غير علمية حسب معيار بوبر، لأنها تتخذ من الإبهام وسيلة للبقاء. حين يُقسم فرويد مثلا في نظريته البنيوية النفس إلى الهو، والأنا، والأنا العليا فهو يُقدم قراءة مثيرة للاهتمام، إلا أنها - وككثير من نتاج علم النفس - نظرية غير قابلة للدحض. أي أنها لا ترتبط بشرط تأكيده يعني تفنيد النظرية، على النحو نفسه الذي ينفي سقوط الأشياء إلى الأعلى ما يقترحه نيوتن عن الجاذبية. هذا لا يعني بأي شكل أنها جديرة بالإهمال، أو أنه يستحيل أن تُطور لشيء أرسخ أو أن تقود لنظرية أكثر متانة. إنه يعني فحسب أنها كما تُقدم - حين تُقدم على هذا النحو - لا ترتقي لأن تُوصف بأنها علمية.
يتبنى بوبر هذا الموقف لأنه - حسب ما يرى - يسهل تأكيد أي نظرية إذا كان البرهان على صحتها هو ما نبحث عنه. في المقابل ما يجده معيارا مُرضيا هو السعي الدؤوب لتكذيب النظرية. وكلما زادت القيود وشروط التفنيد كلما حازت النظرية مكانة أرفع.