العِلم المُزعزِع في تراجع.. ولا أحد يعرف السبب

22 فبراير 2023
22 فبراير 2023

توطئة:

أُترجم هذا المقال الذي يُناقش ورقة علمية حظيت بالاهتمام مؤخرا. قام 3 من الباحثين (مايكل بارك، إيرين ليهي، راسل ج.فانك) بتحليل ملايين الأوراق، وتوصلوا إلى أن الأوراق العلمية المنشورة في العقود الأخيرة تتسم بكونها أقل خلخلة أي أنها تميل لمعاضدة الأدبيات التي تبني عليها، عوضا عن زعزعتها. يستعرض المقال نتائج الدراسة، كما ينظر في الأسباب المحتملة لهذا التغيير في مسار التقدم العلمي.

المقال:

عدد الأوراق المنشورة في مجالات العلوم والتكنولوجيا ازدادت بكثافة عبر العقود الماضية. لكن المُزعزع منها تراجع، وفقا لدراسة عُنيت بتحليل مدى رديكالية المسار الذي تتخذه الورقة في حيدٍ عن الأدبيات السابقة لها.

تُظهر البيانات المحصلة من ملايين المخطوطات أن تلك المنشورة خلال الألفية -مقارنة مع الأبحاث المنتجة في منتصف القرن العشرين- تفضي -على الأغلب- لتقدم علمي تدريجي، عوضا عن اتخاذها اتجاها جديدا، يساهم في هجران ما سبقها من أعمال. تحليل براءات الاختراع بين العامين 1976 و2010 كشف عن النمط ذاته.

«تكشف البيانات المدروسة عن تغيير ما» يقول راسل فونك -عالم الاجتماع في جامعة مينيسوتا في مينيابوليس ومؤلف مشارك في التحليل الذي نُشر على Nature في الرابع من يناير-، «إذ لم تعد الاكتشافات الخارقة ( breakthrough discoveries) تحدث بالكثافة نفسها».

الاقتباسات الواشية

حدد الباحثون الأوراق فائقة الزعزعة من خلال تتبع الأعمال التي تليها. إذ يُرجّح أن تستخدم الدراسات -التي تلي نشر ورقة مُزعزِعة- تلك الورقة تحديدا عوضا عن استخدام المصادر التي اعتمدت عليها الورقة في الأصل. حيث توصلوا -عبر تحليل 45 مليون مخطوطة و3.9 براءة اختراع- إلى حساب مقياس الزعزعة، والذي أطلقوا عليه «مؤشر الزعزعة CD index « (1) والذي تتراوح قيمته بين -1 و1 حيث الواحد هو أعلى قيمة للزعزعة، وسالب واحد أدناها.

تراجع مُعدّل مؤشر المعاضدة والزعزعة بأكثر من 90٪ بين عامي 1945 و2010 بالنسبة للمخطوطات (2)، فيما تراجع بأكثر من 78٪ بين عامي 1980 و2010 بالنسبة لبراءات الاختراع. تراجعت الزعزعة في مجمل الحقول التي حللتها الدراسة حتى مع الأخذ بالاعتبار احتمال التغير في بعض العوامل مثل اختلاف ممارسات التضمين (الاقتباس) مع مرور الوقت.

قام الباحثون أيضا بتحليل الكلمات الواردة في المخطوطات، ووجدوا أنه بينما تدرج كلمات تستحضر الإبداع أو الاكتشاف (مثل «إنتاج» أو «تحديد») خلال خمسينات القرن العشرين، فإن مصطلحات الأعمال المُنتجة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تُحيل إلى نوع من التقدم التدريجي مثل «تطوير» أو «تحسين».

«ما أروع أن نُشاهد هذه الظاهرة وقد وُثقت على هذا النحو المتقن» يقول داشون وانج، عالم الاجتماع الُمحوسب في جامعة نورث وسترن في إيفانستون، إلينوي، الذي يدرس الزعزعة في العلوم: «لقد نظروا إلى القضية بمائة طريقة مختلفة، وأجد النتائج التي توصلوا عليها -بشكل عام- مقنعة». فيما اقترح بحث آخر أن الابتكارات العلمية بدورها تباطأت في العقود الأخيرة، حسب ما ذكر إيان ين، وهو أيضًا عالم اجتماع حاسوبي في نورث وسترن. إلا أن هذه الدراسة تُعد «نقطة انطلاق لأسلوب يعتمد على البيانات للتحقيق في كيفية تغير العلم» يُضيف.

الزعزعة ليست جيدة بالضرورة، والتقدم التدريجي للعلم ليس سيئا بالضرورة هو الآخر -يقول وانج- على سبيل المثال، فالملاحظة المباشرة الأولى للأمواج الثقالية (gravitational waves)، كانت ثورية، كما كانت نتاج عِلم تدريجي البناء في الوقت نفسه.

الوضع المثالي هو مزيج صحي من البحث المعاضد والمزعزع، حسب جون والش، وهو متخصص في سياسة العلوم والتكنولوجيا في معهد جورجيا للتكنولوجيا بأتلانتا: في عالم نهتم فيه بموثوقية النتائج، لعل من الجيد أن تسود الأبحاث المُعادة والمكررة معاد تنفيذها باستخدام عينة البيانات ذاتها أو المكررة بالكامل باستخدام عينات جديدة (3) يقول.

ما أسباب الانحدار؟ من المهم فهم أسباب التغير العنيف، يقول والش: لعل منبع هذا التوجه عائد جزئيا إلى تغير المؤسسة العلمية. على سبيل المثال، يُوجد اليوم باحثون أكثر مقارنة بأربعينات القرن الماضي. الأمر الذي أوجد مناخا أكثر تنافسية، وزاد أهمية نشر لأبحاث وطلب براءات الاختراع. وهو ما أدى بدوره لتغيير دافع وزخم أداء الباحثين لأبحاثهم. الفرق البحثية الكبيرة -مثلا- أصبحت أكثر شيوعا، وقد وجد وانج وزملاؤه أن الفرق الكبيرة ميالة لإنتاج أبحاث تطويرية أكثر من ميلها لإنتاج أبحاث مزعزعة.

ليس من السهل تفسير الانحدار، يقول وانج. بالرغم من تراجع نسبة الدراسات المزعزعة بين عامي 1945 و2010، إلا أن عدد الدراسات المزعزعة على نحو جذري لم يتغير تقريبا. معدل التراجع محير أيضا، إذ هبط مؤشر الزعزعة بحدة بين الأعوام 1945 و1970، ثم على نحو متدرج بين أواخر التسعينيات إلى 2010. يقول: «أيا يكن ما يشرح السقوط الحاد، عليه أيضا أن يشرح الانحدار المتدرج» خلال الألفية.

هوامش:

1- يُطلق على المؤشر الذي يقيس الزعزعة اختصارا CD index، وهو مُؤلّف من كلمتي consolidating أي معاضدة (بمعنى أن العمل يدعم الدراسات السابقة)، و disruptive أي زعزعة (أي أن العمل يحيد عنها). وسنُسمي المؤشر اختصارا في هذا المقال بمؤشر الزعزعة.

2-ورد شكل توضيحي في المقال الأصلي، وجدنا أن عدم تضمينه في المقال المترجم لا يخل -على نحو جدي- بفهم فحواه.

3- في المنهج العلمي، يُشير مصطلح reproducibility إلى كون النتائج قابلة للتكرار إذا ما تمت معالجة البيانات نفسها، فيما يُشير مصلح replicability إلى الوصول للنتائج نفسها حتى مع استخدام عينات بيانات جديدة.

ماكس كوزلوف

ترجمة: نوف السعيدي

الترجمة عن مجلة نيتشر