العلاقات.. بين القيم والمصالح المشتركة
تقوم العلاقات بين الناس في مستوياتهم المختلفة (الفرد، الجماعة، الأنظمة، الدول) على مزيج من القيم والمصالح، والقيم هي مجموعة المفاهيم التي تُؤمِّنْ للناس نوعا من الاطمئنان، وهي المرتبطة بالخلق القويم، والمصالح هي التي تؤمن نوعا من الاحتياجات المادية الصرفة، ومما يجب التسليم له، أن ما بين القيم والمصالح ثمة علاقة تشابكية، وعلى قدر كبير من الأهمية، وبالتالي، فلا القيم يمكن الاستغناء عنها في ظل وجود المصالح في العلاقات، ولا المصالح يمكن الاستغناء عنها في ظل وجود القيم في العلاقات ذاتها، وبالتالي فلا يمكن الجزم إطلاقا أن هناك تراجعا لأي منهما في إقامة أي علاقة تكون، سواء ذلك على مستوى الأفراد فيما بينهم، أو على مستوى المؤسسات، أو على مستوى الدول، نعم، قد يتراجع أحدهما في لحظة تاريخية فارقة، ويتسيد الآخر، ولكن في كل الأحوال تبقى هناك قيم، وتبقى هنا مصالح في كل العلاقات القائمة، ولأن الناس مفطورون على القيم أكثر، ويرون فيها أمنهم، واستقرارهم، فإنهم في المقابل يرون في تنامي المصالح على حساب القيم، خطورة كبيرة على أمن المجتمع، وذلك حتى لا يتوغل مفهوم «شريعة الغاب» فيما بينهم، ويأكل القوي الضعيف بحجة المصلحة، أو كما هو التعبير الشائع: «إن لم تكن ذئبا؛ أكلتك الذئاب»، أو أن الحياة عبارة عن مجموعة من الحيتان تأكل بعضها بعضا، أو فـ «النار تأكل بعضها؛ إن لم تجد ما تأكله» فهذا القلق الخفي، وإن وجد مبرر ما؛ في لحظة ضعف ما، فليس ذلك مدعاة، لأن تتلبس الحياة بهذا الرداء القاتم السواد، فما يجمع بين الفرقاء يبقى الكثير وفيه الخير، وخاصة بين الأفراد، وحتى ما بين الأنظمة السياسية، يظل هناك بصيص أمل أنه يمكن خلق حوار ما، تعلى فيه القيم على المصالح، أو على الأقل تتوازى في بعدها الأفقي، وهذا ما يشرع الأمل في أن الإنسانية يمكن أن تواصل مسيرتها، بنفس الرتم الذي أوصلها إلى مراحلها المتقدم اليوم، وتبقى هذه الصورة وجهة نظر حديثة في مسألة العلاقات، وخاصة اليوم في ظل تنامي وسائل الاتصال، وتوغلها غير المسبوق في حياة الناس، والدول على حد سواء.
أما وجهة النظر الأخرى، فترى أن القيم المشتركة، والمصالح المشتركة، مفهومان متضادان، وليس من اليسير الجمع بينهما، ومن استطاع من الدول أن يوحد بينهما في بوتقة واحدة، فقد ملك ناصية حاضره ومستقبله؛ لأن في اجتماع الاثنين لتوجه واحد إنجاز غير مسبوق يمكن أن تحققه البشرية في أي عصر كان، فالحاضنة التاريخية لهذه المسألة لا تنبئ إطلاقا عن أي توحد كان، وكان نزيها، وآمنا، ومستقرا، ومحايدا، ولهذا يتلبس هذه الوحدة في حالة قيامها - مصادفة أو مقصودة - الكثير من الشكوك، وطرح الأسئلة الصادمة؛ لأن في قيامها يخالف كل الصور النمطية المتوارثة عن الشكوك المحيطة بها، فعلى مر التاريخ كما هو مدون ومتداول، لم يكن هناك اتحاد موضوعي بين القيم والمصالح المشتركة، وبالتالي فأي جهد جبار قد يصل إلى مرحلة هذا التوافق والامتزاج لا بد أن تقرع له طبول الحرب، وتعلن حالات الاستنفار؛ لأنه يقوض مصالح فئات أخرى، لا تريد للمجتمعات أن تهنأ بشيء من الاستقرار، فاستقرارها ضرب لمصالح الأنظمة والدول المستنفرة، وهذا الأمر لا يقتصر فقط بين الدول والشعوب، كتنظيمات سياسية كبرى، وإنما يتضمن كذلك العلاقات بين الأفراد فيما بينهم، وهذه الأخيرة من أسوأ الصور التي تتوزع بين المجموعات الإنسانية، بل قد يصل الأمر حتى على مستوى الأسرة الواحدة، ولعل مرد ذلك إلى الفطرة الإنسانية الموسومة بالضعف والقلق، والخوف من الآخر، ولو جمعهما المشترك الإنساني كأهم عامل مشترك يمكن المراهنة عليه في التقارب الإنساني على مر التاريخ، فكل الأحداث المؤلمة التي نقرأ عنها، أو نسمع عنها، أو التي عايشناها في العصور المتأخرة، تؤكد هذه الصورة، ولا تنبئ عن توافق يمكن أن يقوم بين القيم والمصالح المشتركة، وإلا لعاشت الإنسانية في خير ونعيم.
تفرض الجغرافيا، وهي من المحددات المهمة في قياس العلاقات، وهي الحاضنة الكبرى لها؛ سطوتها في تحديد نوع العلاقات بين أي طرفين، وهل هي قائمة على القيم المشتركة، أو المصالح المشتركة، كما تعكس قدرة القاطنين في نفس المكون الجغرافي على تحييد العلاقات القائمة بينهم، أو بين أي طرف آخر عن الوقوع في مأزق أي من هذين المحددين لطرفي كفة ميزان العلاقات، ولذلك نرى قدرة الشعوب على الانتصار لجغرافيتها إلى حد ما في هذا الجانب، يتضح ذلك في مجموع التكتلات القائمة بينها، وانتصارها لجغرافيتها، وعدم السماح لأي طرف آخر من هذه المساحة الجغرافية التي تجمعهم من الدخول إليهم كلاعب ثانوي، وهذا بدوره يعكس وضوح الرؤية، وسداد الرأي، واستقلالية القرار، ومع ذلك فهناك تجارب سياسية عديدة لم تصمد وفقا لهذا التقييم أعلاه، فأين الاتحاد السوفيتي العريق؟ وأين بعض التكوينات السياسية التي تقوم هنا وهناك؟ وحتى التكتلات السياسية القائمة اليوم، فيها ما فيها من التصادمات والاختلافات، ومصيرها إلى التفتت، والانشقاق؛ وفقا لضرورات المصلحة المتوقعة، أو وفقا لحكم التاريخ الذي ينفي أي بقاء سرمدي في الحياة.
وفي هذا الإطار ينظر إلى الشعوب العربية - التي تجمعها جغرافية ممتدة بلا انقطاع - على أنها لم تستثمر معززات العلاقة (القيم/ المصالح) التي تجمع بين دولها، فالمتحقق لتعزيزها كبير جدا، وشامل جدا، سواء في مجال القيم المشتركة حيث اللغة، والدين والجغرافيا، والعادات والتقاليد، وعلاقات النسب، أو في مجالات المصالح المشتركة من حيث الثروات الطبيعية، غير العادية المحققة للتكامل في كل المجالات، والامتداد الجغرافي من الشرق إلى الغرب دون فواصل مائية، طبوغرافية حادة، بالإضافة إلى وجود العقول المفكرة والواعية بقضيتها العربية، والقدرة العددية (عدد السكان) القادرة على تحمل مسؤولياتها في إنجاز المشروع التنموي العربي ككل، مع وجود الفرص الكبيرة للتكامل الاقتصادي، من حيث الأراضي الخصبة، ومياه الأنهار والبحار الممتدة والواصلة بينهما بلا انقطاع، كل ذلك مقومات مهمة تجمع بين القيم، والمصالح المشتركة، والفهم الواعي بقضية الوطن ومصالحه المشتركة، ومع تحقق هذه المقومات كلها، إلا أن ما هو متحقق لا ينبئ عن وحدة، لا عن تكامل، ولا توجد حتى الآن رؤية استشرافية يمكن النظر إليها بعين الأمل.
ولكن مما يجب التسليم له، أو استحضاره عند مناقشة هذه القضية، هو أن الاستعمار البغيض المتأصل يلعب بورقة رابحة لتشتيت أي علاقة وحدوية شاملة لأي تجمع يملك عوامل قدراتها المادية والمعنوية، وهي ورقة مفضوحة ومعروفة، يعيها الصغير قبل الكبير، وسوداوية هذه الورقة؛ لأنها لا تدخل ضمن العمل الصادق والأمين في إقامة العلاقات المحترمة بين الدول والشعوب على حد سواء؛ وذلك لهدف معروف وهو استغلال الثروات الطبيعية للدول، بقوة «المساومة» ولإيجاد أرضيات غير صحية شعارها الشك، والتربص بالآخر، وعدم الاطمئنان، حتى تبقى المكونات السياسية للدول خائفة ومترقبة من عدو قد يأتي في يوم من الأيام، وتمر السنون، وتتوالى الأجيال متجرعة نفس هذه الثقافة المتعفنة، ويكون الجميع في نهاية المطاف قد أكل الطعم المر، ووقع في مصيدة الاستغلال؛ من حيث يدري ولا يدري، وعلى الرغم من انتباه الدول لهذه الجرثومة، وتبنيها في إنشاء مؤسسات ومنظمات دولية - يفترض أنها تهدف إلى إرساء قيم العدالة والاستقلال، والأمن والرخاء بين الدول - فإذا بها تقع في مصيدة التسلط، وتوظيفها لأجندات تخدم ذات الدول الاستعمارية التقليدية، وبذلك راوحت الصورة النمطية ذاتها منذ ذلك الزمن البعيد، وإلى هذا الزمن الحاضر، والمسألة مرشحة للاستمرار، فقط يتغير اللاعبون بين مشرق ومغرب، أو شمال وجنوب، وبذلك لن تهنأ الإنسانية طوال عصور نشأتها وتكونها بشيء من ما توفره القيم الإنسانية من السخاء والرخاء، وظلت معلقة على مشجب المصالح المشتركة، المخضبة بالدماء والتدمير، والحياة للأقوى.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني