العلاقات البنيوية بين البنى الأساسية
يتطلب الحديث هنا مناقشة أمرين مهمين؛ الأول: هو مجموعة البنى المكونة للمشروع التنموي في أي دولة، وأي من هذه البنى ينظر إليها على أنها الحاضنة لمختلف البنى الأخرى الداعمة للبنية الأساسية الأم.
الثاني: هو مجموعة العلاقات البنيوية المتفاعلة سواء بين «البنية الأساسية للتنمية» الأم؛ مع البنى الداعمة، أو سواء بين هذه البنى الداعمة مع مثيلاتها التي هي في درجتها الأفقية من حيث الأهمية، وإن اختلفت عنها من حيث التخصص أو الموضوع والاتجاه الرأسي في التأثير.
وكما هو معروف بالضرورة أن «البنية الأساسية للتنمية» هي الحاضنة الكبرى لكل البنى الأخرى؛ ومن هذه البنى: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والفكرية، لتشكل هذه البنى مجتمعة العمود الفقري لمشروع الوطن الكبير، ولن ينجز أي وطن مشروعه بصورة صحيحة إذا أخفق في أي بنية من هذه البنى المهمة، لأنها بمثابة القلب المحرك لدفة الحركة الموضوعية التي لا تقبل ولا تتحمل أي إخفاق في أي منها، وهذه البنى في مجملها هي مسؤولية دولة ومواطن على حد سواء، كل بقدر الدور والمسؤوليات المنوط بها، فمشكلة البنى لا يمكن أن تواصل سيرها على عكاز، أو عرجاء، وإلا عرقلت المسيرة بمجملها، فكل بينة أساسية من هذه البنى يعتمد نشاطها، وحيويتها على الأخرى، ويظل الإنسان هو الفاعل الحقيقي لتفعيل أنشطتها المختلفة، وذلك للوصول إلى الغايات النبيلة الكبرى.
تُقيَّمُ «البنية الأساسية للتنمية» – أو كما يطلق عليها بمصطلح «البنية التحتية»- على أنها الأم أو الحاضنة لكل البنى الأخرى، وهذه البنية متمثلة في توفير الخدمات اللوجستية المختلفة؛ وهي كثيرة؛ ومن خلال تحققها، وتعززها، وتأثيرها المباشر على مناحي الحياة العامة، تنبثق منها بقية البنى الأساسية الأخرى، ومنها يأتي النظر والاهتمام بتفعيلها، وتنشيطها على مستوى الدولة، وهذه الأخيرة تظل في كل أحوالها شديدة التماس مع المؤسس، وهي «البنية الأساسية للتنمية» ولذلك ينظر إليها على أنها المؤشر المهم لتحقق الرخاء والاستقرار في أي مجتمع إنساني، وبدونها لن تكون صورة التنمية ناصعة البياض، حيث يشوبها التشويش، والصور الضبابية، وهذا التشويش تداعياته خطيرة على أمن المجتمع؛ على وجه الخصوص؛ ويأتي مجمل عدم الاستقرار في كثير من الدول؛ انعكاسا لسوء أثر التنمية الحقيقية على حياة المجتمع، ولذلك تحرص الأنظمة السياسية على تعزيز وتفعيل «البنية الأساسية للتنمية» وجعلها أولوية أولى في كل الخطط والبرامج سواء تلك البعيدة المدى أو القصيرة المدى، وتخصص لذلك موازنات كبيرة، وبرامج ابتكارية تحديثية، حتى لا تفقد هذه البنية تألقها وحضورها في خدمة المجتمع، وفي عكس الصورة الحيوية للدولة، وكما هو معروف فأن الفهم الاجتماعي لـ «البنية الأساسية للتنمية» يذهب إلى اكتمال الخدمات؛ أولا؛ ومن ثم النظر إلى البنى التكميلية الأخرى في مجالات الاجتماع، والثقافة، والفكر، مع النظر بعين الاعتبار أن البنية الاقتصادية تظل لصيقة جدا بـ «البنية الأساسية للتنمية» وإحدى محاورها المهمة، ولا يمكن أن تتعزز الأولى في ظل تراجع الثانية.
تتشكل العلاقات البنيوية من مجموعة من التفاعلات التشاركية المتبادلة التي تحتم وجودها البنى المختلفة كضرورة حتمية لوجودها من ناحية، ولضرورة تأثيرها على واقع الناس من ناحية ثانية، ومعنى ذلك أن هذه العلاقات تصبح في حكم الضرورة المطلقة، وإلا اختلت تأثيرات البنى على هذا الواقع الذي نشير إليه في هذه المناقشة، وكما تم التطرق إلى أن «البنية الأساسية للتنمية» هي الحاضنة لمختلف البنى المتفرعة منها، فإن ذلك يجعل هذه الحاضنة تفرز مجموعة من الإنتاجات الداعمة لمسيرة بقية البنى، وهذه الإنتاجات يشترط؛ أيضا؛ أن تكون نوعية، وتخصصية، ومتجددة لكي تؤدي رسالتها المناطة إليها، ولذلك فلن يكون مقبولا إطلاقا أن تغذي «»البنية الأساسية للتنمية«» بقية البنى المتفرعة ببرامج عفا عليها الزمن، أو غير قادرة على إعطاء إضافة نوعية لتفعيل هذه البنى، وهذا يتطلب تحقيق نوع من التكافؤ في مسارات هذه البنى مجتمعة، وأن لا يكون أي نوع من الفصام، أو التقاطع بينها فيما تذهب إليه في خدمة مشروع الدولة الكبير، بمختلف مساراته، وتوجهاته، وقدرته على تلبية متطلبات العصر، ومعنى ذلك فإن أي برنامج تنموي لن يكون مقبولا إن وجد في مضمونه أنه يغرد خارج السرب.
تحضر العلاقة البنيوية بين مختلف هذه البنى كلها، لتشكل رابطا على قدر كبير من الأهمية، ذلك أن البنيوية عامل رئيسي بينها، وذلك لحجم التشاركية القائمة بينها جميعا، بحيث لا يمكن أن تعمل أية بنية من هذه البنى مكتملة في معزل عن الأخرى، صحيح؛ أن هناك بنى تأخذ موقع الصدارة عن أخرى، نظرا لما تمثلة من حيوية البناء والتشييد في مشروعات الوطن الكبيرة، ولكنها تظل على تشاركية كبيرة ومحورية مع البنى الأخرى، فلا يمكن؛ على سبيل المثال؛ أن تتعزز «البنية الأساسية للتنمية» دون أن تكون هناك «بنية اقتصادية قوية» ولا يمكن أن تزدهر «البنية الفكرية» دون أن تكون «البنية الاجتماعية» قادرة على فهم مجمل العلاقات القائمة بينها وبين البرامج والخطط التي تنفذها الحكومة، ولا يمكن أن تعمل «البنية الثقافية» بمعزل عن البنية الفكرية والاجتماعية على حد سواء، فالعملية البنيوية عملية متداخلة بين هذه البنى كلها، لتأثيرات البنى بعضها على بعض، سلبا أو إيجابا، وهذا مما يستلزم على صاحب القرار أن يكون واعيا ومدركا لكل هذه التشابكات في مشروع الوطن الكبير، حتى لا يتفاجأ بأي إخفاق من شأنه أن يعطل هذا المشروع في أي جانب من جوانبه، وهذا ما يدفع إلى الاهتمام بالضرورة – وهي ضرورة حتمية – إلى وضع الرأس المال البشري، موضع الاهتمام المطلق، وتفعيل دوره في هذا المشروع الكبير، فالأوطان؛ كما هي دائما؛ لا تراهن على نجاحاتها، وتألقها إلا من خلال حضور الرأس المال البشري الفاعل، وفاعليته لن تتحقق إلا من خلال تأهيله وتدريبه، وتهيئته للقيام بالدور في أي موقع يكون فيه، وتطعيمه بصورة مستمرة بالثقة القائمة على التجربة، وإفساح المجال لاستنطاق إبداعاته، وتميزه في الفعل الإنساني.
لعل ما يشغل واضع السياسات أكثر؛ أيضا؛ هو البنى الاجتماعية التي تحتاج إلى كثير من الخطط والبرامج، ذلك أن البنى الاجتماعية تدخل فيها القناعات والرغبات، فيها الأخذ والرد، وتدخل فيها المستويات الثقافية من أوسع الأبواب، كما أنها تعتمد كثيرا على معززات القيم، وما يتوافق؛ أو يتصادم معها، ولأن العنصر البشري يلعب دورا محددا فيها؛ فإن تطوير البنى الاجتماعية تحتاج إلى جهد أكبر للإنجاز، وزمن أكبر للتنفيذ، وبالتالي فأية برامج تدخل في هذا الجانب إن لم تجد المساحة الأكبر للاقتناع بها فإنها قد تفشل، أو أقلها؛ تكون نسب قبولها بين أوساط المجتمع؛ نسبا بسيطة، وقد تتلاشى مع مرور الزمن، خاصة في المجتمعات التي تشكل فيها النسب العمرية الكبيرة مرتفعة نسبيا، بخلاف المجتمعات التي فيها النسب العمرية الصغيرة مرتفعة، وذلك لقدرة الأخيرة على الفهم والاستيعاب، وتقبل الجديد.
تبقى الإشارة؛ ختاما؛ إلى مجموعة التحديات التي تواجه البنى الأساسية في مجملها، فتعطل حركتها وحيويتها وأنشطتها، حيث تظل التحديات «ملح» أية تجربة إنسانية على المستويين العام والخاص، ومن خلال معرفة التحديات يمكن الوصول إلى الحلول الذكية لمعالجتها، وذلك من خلال إعادة التخطيط، وابتكار الحلول الذكية لأي نشاط تستلزمه هذه البنى لكي تؤدي دورها على أكمل وجه، دون أي إخلال بالواجب والمسؤوليات، مع الحفاظ على التوازي في الاهتمام بجميع هذه البنى على حد سواء، ليكون مشروع التنمية مشروعا متماسكا، ليصل إلى الغايات المثلى.