العقيدة الاجتماعية.. هل تتوافق مع استحقاقات الثقافة؟
يلزم التأكيد في بداية هذه المناقشة؛ على أن "العقيدة الاجتماعية" هي فعل إنساني تراكمي، تتصارع بين جنباته الكثير من تقاطعات الخير والشر، ولكن لأن الشر أثره قاس على الناس، فيغلبونه على الخير، مع أن الخير ـ وهو الموصوف بالثقافة هنا ـ موجود أيضا ويقاتل بشراسة لأجل تحقيق العدالة، فالعقيدة الاجتماعية ليست كلها شر، بل هي مزيج بين الخير والشر، ولكن تكون هناك؛ في بعض الظروف؛ مراوحة حيث يثور بركان الشر، فيكتسح المساحات الإنسانية، فيظن الناس أنهم "قاب قوسين أو أدنى" من خندق الهلاك، ويتغافلون؛ وهذا من الضعف البشري؛ عن قدرة الله تعالى في إرساء قيم التوازن والعدالة، والرحمة، وعند النظر إلى الصورة بشموليتها وتأصلها حتى مستوى (العقيدة) فمن هنا يمكن التفريق بين العقيدة والثقافة، فالثقافة لا تقبل التأصيل المؤرخ، بينما العقيدة تقبل ذلك وتحرص عليه، والثقافة فعل متحرك، لا يخضع كثيرا للتجذر، حيث تصنعه أدوات العصر أكثر من أي شيء، بينما العقيدة الاجتماعية تخضع للتراكمات؛ وإنْ هي، أيضا، من صنع البشر، ولكن تنحاز نحو القيم أكثر، ومن ثم تتأصل بالممارسة، ومع كل فترة زمنية تتجذر هذه التراكمات لتسجل لنفسها تاريخا يُلزمها بالمحافظة على مكتسباتها، ويأتي في مقدمة هذه المكتسبات مجموعة الممارسات التي يقوم بها أفراد المجتمع في حياتهم اليومية، وحرص هؤلاء الأفراد على أن تستمر هذه الممارسات، وفي كثير من الأحيان يغض الطرف عن السيء منها، على اعتبار أنها هكذا تسلسلت إليهم عبر آبائهم، وأجدادهم من قبل، فوق أنها تحقق لهم مكاسب اجتماعية معينة، ولذلك يظل هناك صدام قائم بين العقيدة الاجتماعية، والثقافة، فدور الثقافة هو غربلة المفاهيم الخاطئة التي تتكور عليها العقيدة الاجتماعية، مع أن المفهومين "العقيدة الاجتماعية والثقافة" كلاهما منتج بشري اجتماعي، ولكن ميزة الثقافة أنها ديناميكية، متحررة من قيود التبعية أكثر من العقيدة الاجتماعية، لأنها تنتصر كثيرا لأدوات العصر، ويتبناها؛ غالبا؛ الجيل الأحدث، ولذلك سيظل الصدام قائما، وسمه ما شئت (صدام الأجيال؛ صدام الحضارات؛ لكل زمن دولة ورجال؛ ولدوا في زمن غير زمانكم؛ جيل ناكر للجميل؛ عصر تنويري؛ تباينات الأزمان) وغيرها من المسميات التي يحلو للبعض الإتكاء عليها عندما لا يجدون أدوات الصحيحة للدفاع عن قناعاتهم، ولكن هل هناك من يسجل إنتصارا ساحقا على الآخر؟ لا أعتقد؛ حيث تظل المراوحة قائمة بين نصر وهزيمة.
تحتوي حمولة الـ "العقيدة الاجتماعية" مجموعة من القيم، والموروثات، والعادات والتقاليد، والمواقف، والآراء، والمكتسبات الذاتية، ومجموعة الخبرات، وبالتالي فهذا المحتوى بهذه الكثافة من المكونات والعناصر، لن يكون يسيرا اختراقه في فترة قصيرة منجزة، حتى ولو حاولت الثقافة بمجموعة الأدوات أن تؤثر على هذه الحمولة، فتعمل على تفكيكها، ومعنى هذا أيضا إن حدثت انفراجات في هذا الاتجاه، فإن ذلك يتطلب مرور زمن غير يسير، على أجيال متتالية، ومع ذلك تبقى الانفراجات بسيطة، وبالتالي فالعقيدة الاجتماعية ستظل عصية على تأثيرات الثقافة المباشرة، لأن تغيير القناعات ليس يسيرا بالمطلق، فيحتاج إلى كثير من المخاتلات، واقتناص الفرص، واختيار الأوقات المناسبة، والنظر في مدى استعداد الطرف الآخر في قبول ما يطرح عليه من أفكار من شأنها أن تربك مجموعة القناعات التي يؤمن بها.
نجد في واقعنا الاجتماعي الكثير من الممارسات التي تؤصل المعنى الحقيقي للعقيدة الاجتماعية، ومن أمثلة ذلك عدم قبول الرأي المختلف، عدم التنازل على الممارسات الوجاهية بصورتها التقليدية، وقوع الإدارة الحديثة في المؤسسات في مستنقع القبيلة أو المذهب، وإن لم يعلن ذلك على الملأ، شيوع الواسطات، التحايل على نصوص القانون، وجود التحزبات والتكلتلات "اللوبيات" الأخذ بالثأر في بعض المجتمعات، تصدر العنصرية للّون والجنس، وجود الفئوية، استمرار تسلط الدول الاستعمارية (إن لم تكن معي؛ فأنت ضدي) فرض الأمر الواقع بالقوة؛ حتى على مستوى الأفراد؛ في البيئات الأسرية مثلا، وحتى على مستوى المجتمع، اتخاذ القرارات الارتجالية في المؤسسات؛ على الرغم من وجود النظم والقوانين التي تحدد العلاقات، وتنظم آليات العمل، وكذلك بين مؤسسات المجتمع المدني، يحدث هذا، ويمارسه الناس عن قناعة؛ في أغلب الأحيان، لأن في جميع هذه الممارسات ترجيح المصلحة الخاصة على المصلحة العامة – وهذا عقد اجتماعي خاص - وعلى الرغم من مغذيات الثقافة المختلفة: ومنها الدين الصحيح، وشيوع المعرفة، والتلاحم الكبير والشامل بين المجتمعات الذي يحدث اليوم، وأدوات التواصل الاجتماعي التي قربت المسافات، وتجاوزت الحدود التقليدية، ظهور التكنولوجيا الحديثة التي اعتقلت الذهنية الإنسانية، واحتكرتها لفهم أكبر وأوسع؛ إلا أن كل ذلك لم يجد نفعا حتى هذه اللحظة للخروج من مأزق استحكامات العقيدة الاجتماعية، ولذلك يمكن القول: أنه إذا لم تتعرض العقيدة الاجتماعية لتفكيك كتلها السالفة الذكر لأدوات التفكيك التي تمارسها الثقافة عليها فإن كل محاولات الترويض الثقافي لن تجدي نفعا، أو أن التأثير يظل بسيطا، ويحتاج إلى مدد زمنية أطول، وجهود تبذل أكثر، وبالتالي تصبح المجتمعات وكأنها تتموضع على ذاتياتها، وسيظل التاريخ يكرر نفسه بالفعل، وستظل الأجيال تتناسخ فيما بينها "سلوكيا" مع أن المشروع الثقافي مشروع خصب، وشامل، ومتنوع؛ فهناك (الثقافة المدنية؛ الثقافة السياسية؛ الثقافة الإدارية، الثقافة الدينية؛ الثقافة البرلمانية "التشريعية" والثقافة القانونية، والثقافة العامة، والثقافة الإلكترونية) وكل نوع من هذه الثقافة له مناخ خص به للتأثير على المتلقي في البيئة التي نشأ فيها، وبالتالي إحداث تغيير ما: في القناعات، وفي السلوكيات، وفي المواقف.
ينظر إلى الدولة المدنية؛ في حالة تحققها؛ بكثير من الاهتمام، على أن لها القدرة على إرباك هذه العقيدة المتأصلة، والمتعنصرة لذاتها في كثير من المواقف، وذلك من خلال مجموعة من البرامج التنموية التي تنضح بالعدالة، وبالحيادية، وبالموضوعية، وبما يتوافق مع الواقع الملوس، بحيث لا تكون حبرا على ورق، وهذا ما يدعو صاحب القرار؛ كل حسب موقعه؛ أن يبذل جهودا كبيرة وجبارة، وينزع نفسه من كثير من التجاذبات الذاتية، والوجاهية، ويدخل معتركا ليس يسيرا؛ ليس فقط في الحد من ممارسات تضارب المصالح، بل في إنهائها بشكل منقطع، لا يقبل الرهان على أية علاقة كانت في سبيل تحقيق المصلحة العامة، ومن ذلك يمكن أن تتوغل أذرع الثقافة لتقوم بعمليات تفكيك العقيدة الاجتماعية التي تنتصر لذاتها غالبا؛ حيث الجانب المظلم فيها – إن تصح التسمية – فالمسألة لن تستغني عن القيام بالدور الإجرائي، فترك الأمور تسير وفق سياقات القناعات فقط؛ لن تحقق الكثير من الإنجاز، فلا بد من إجراءات عملية في هذا الجانب، وأقلها تطبيق نصوص القانون بلا استثناءات، مهما كلف ذلك من تضحيات في المراحل الأولى للتطبيق.
الإيمان العقدي؛ وهنا لا أتحدث عن الإيمان بالله الذي عنوانه الإسلام الصحيح، وإنما أذهب إلى الاعتقاد الجازم بمجموعة من المسلمات الاجتماعية، وعدم قدرة الفرد على التخلص منها؛ إيمانا منه أن بقاء هذه المسلمات والمحافظة عليها هي تمكن الهوية من بسط نفوذها على كل الممارسات التي يأتي بها الأفراد في مكان معين، وفي زمن معين، وعند جيل معين، لأن الأجيال من صفاتها الحيوية هي قدرتها على محورة هذه المسلمات لتبدو بصورة أخرى أكثر حداثة، ولكن؛ مع ذلك تبقى محافظ عليها كمفهوم وكممارسة، وإنزالها منزلة العقيدة، ولذلك نلاحظ أن الأفراد في اتخاذهم أوطانا بديلة تظل عقيدتهم الاجتماعية حاضرة بكل مسلماتها، وهنا يكمن سر العقيدة التي يؤمنون بها حيث الصورة الحاضرة لوطن الأم بصورة دائمة، وكأن كل أدوات المجتمع البديل لم تؤثر فيهم قيد أنملة، ولذلك فمع أية لحظة سانحة للعودة إلى الوطن الأم، تجده لن يتوانى في تسجيل الحضور، وإن لم تكن له مصلحة مادية، فالمهم أنه أشبع رغبته في العودة من جديد، ويظل الوطن البديل هو مجرد حاضنة مؤقتة، يمكن الاستغناء عنها، وربما قد يحدث إرباكا في هذه العلاقة عند الجيل الذي يليه؛ حيث يكون الوطن البديل هو الوطن الأم، ووطن أم من كان قبله هو وطن بديل، وفي هذه الصورة تبدو صورة العقيدة الاجتماعية في تجلياتها الواضحة من غير رتوش.