الطـلب على السلـطة
يكاد ينعقد الإجماع بين الدارسين للسياسة والمجال السياسي - من ميادين متخصصة مثل العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي - بأن الصراع على السلطة قانون اجتماعي تواتر التعبير عنه في التاريخ الإنساني. يقارب ذلك ما أكده ماركس بالنسبة إلى الثروة بحسبانها، أيضا، موضوع صراع اجتماعي دائم عبر مراحل التاريخ. ولعل الصلة التلازمية بين السلطة والثروة؛ حيث إن كـلا منهما طريق إلى الأخرى، تسوّغ النظر إليهما بوصفهما موضوع صراع اجتماعي مستمر، وبأن الصراع هذا ليس طارئا على علاقات القوى الاجتماعية بهما، بل هو قانون ثابت في مجرى تلك العلاقات.
قد لا نختلف في أن الصراع على السلطة قانون اجتماعي قام عليه من التاريخ فائض من القرائن والأدلة. يعرف ذلك كل قارئ للتاريخ السياسي قديما وحديثا، وتاريخ الدول فيه على نحو خاص: حيث تزدحم يومياته بوقائع المناجزات التي لم تفتأ تندلع بين جماعات مختلفة، متباينة المصالح والأهداف، والدائرة على مسألة السلطة. على أن ما قـد نختلف فيه هو حـملُ الصراع على معنى وحيد فيه، ووجه وحيد منه، هو العـنف ونسبة ما يقع على السلطة من أفعال التغيير إلى ذلك العنف. لهذا الاستدراك الذي أوردناه مبرران على الأقل: أولهما أن الغالب على من يتوسلون مفهوم الصراع لتفسير كثير من ظواهر الاجتماع الإنساني أنهم يماهون - مماهـاة تامة - بين الصراع والعنف؛ أي بين مضمون متعدد الممكنات - من حيث هو تدافـع وتنازع على شيء - وشكل واحد وحيد لممارسة ذلك التنازع! وهذا مما ليس يجوز، وإلا كان التناظر والحوار والتفاوض والتنافس الانتخابي قتالا لمجرد أن هذه حالات صراعية، أي تتصارع فيها الآراء والأفكار والحجج والوثائق... إلخ! وثانيهما أن التاريخ نفسه يظهرنا على صراعات عـدة على السلطة انتهت بإحداث تغييرات هائلة فيها، ولكن من غير أن يُلجَأ فيها إلى أدوات العنف من قـبل أي ممن انخرطوا فيها. وهذا يطلعنا - ثانية - على الحاجة الفكرية والمنهجية إلى توخي الحيطة المعرفية عند الاستنتاج، لتفادي الانزلاق إلى أحكام قطعية غير جائزة، و في حالتنا، إلى عدم جواز إقامة ربط ماهـوي بين الصراع والعنف.
لو ألقينا نظرا إلى التاريخ السياسي الحديث والمعاصر؛ أعني حيث تكونت الدولة الوطنية الحديثة، لألفيْنا أن عمليات التغيير السياسي، التي وقعت، وعمليات الانتقال من سلطة إلى سلطة، في هذا البلد أو ذاك، لم تَجْـر جميعُها على النمط عينه وعلى الوتيرة نفسها. نعم، حصلت هناك ثورات عنيفة انبثقت منها سلطات جديدة: من قبيل الثورة الفرنسية، والثـورة البلشفية الروسية، والثورة الصينية، وثورات شبيهة في كوبا، وفي إيران، وفي نيكاراغوا... إلخ، وكان للعنف المسلح (وللعنف المدني) فيها دور، وقضى فيها الآلاف، وأعقب بعضَها مجازر وتصفيات. غير أنا نخرج - بعملية إحصائية - بنتيجة تقول إن هذه الثـورات أتت نادرة، في السياق التاريخي الإجمالي الحديث، إن هي قورنت بتغييرات أخرى للسلطة حصلت بوسائل سلمية: بالتفاهم والتسوية والتوافق أو بتسليم النخب الحاكمة السلطة حقـنًا للدماء. الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى: من قيام سلطة ديمقراطية جديدة في بريطانيا من طريق التوافق بين طبقة النبلاء الأرستقراطيين والطبقة البورجوازية الصاعدة، إلى تكرر النموذج التوافقي في معظم أوروبا (نيذرلاند، إسبانيا، سويسرا، بلجيكا...)، ووصولا إلى نهايات القرن العشرين؛ حين سلمت الأحزاب الشيوعية السلطة في روسيا السوفييتية ودول شرق أوروبا إلى القوى القومية والليبرالية من غير قتال؛ ثم - مرة أخرى - حين وقعت صفقة التوافق للانتقال الديمقراطي في جنوب أفريقيا بين نظام البيض (في عهد فريدريك دوكليرك) و«المؤتمر الوطني الأفريقي» (بزعامة نيلسون مانديلا)، مثلما وقعت في أمريكا اللاتينية بالتفاهم عليه (= على الانتقال) بين الأوليغارشيات العسكرية الفاشية و(بين) القوى الديمقراطية واليسارية...
والحق أنه ما كانت السلطة لتبلغ هذا المقدار من الجاذبية، في مجتمعات الأرض جميعا، وفي أزمنة التاريخ كافة، إلى الحد الذي تكون فيه موضع منازعات متباينة الأشكال بين قوى المجتمع الواحد، لو لم تكن لها - على الأقـل في الوعي الجماعي - حظوة خاصة، ولو لم يكن التعويل عليها شديدا في الحياة العامة. وقد لا يضاهيها في هذا، حق المضاهاة، سوى الثروة التي هي الأخرى موضع نزاع اجتماعي في كل مكان وزمان وموطن إغراء في الوقت عيـنه. فأما جاذبية السلطة وإغراؤها الشديدان فمأتاهما من أنها مركز النفوذ والإِمْـرَة والوجاهة في أي مجتمع، والوسيلة التي بها يكون تحقيق ما تروم كل جماعة ذات أهداف سياسية تحقيقـه. وبمعزل عما يمكن أن يكون وراء الطلب المتزايد على السلطة من أهداف صغيرة من قبيل تحصيل منافع شخصية أو فئوية، فإن ما ليس محط جدال هو أنها الطريق الوحيد نحو تحقيق المصالح العامة وحياطتها بالرعاية. لذلك، لا مَهْرب لجماعة وطنيـة من الشغف بأمْـر هذه السلطة والتنافُس عليها بشتى طرق التنافس المتاحة.
نحن لا يعنينا، في هذا السياق، كيف يمكن أن يكون التعويل على حيازة السلطة سبيلا مفتوحا إلى تحقيق بغية شخصية أو فئوية، من قبيل مجرد التمتع برأسمال النفوذ والإِمْرة أو حتى غُـنْم ما يمكن غـنمه من مكاسب مادية؛ ذلك أن هذا النوع من العلاقة بالسلطة يـفسد معناها السياسي والاجتماعي، ويهبط بمعدل تقديرها إلى درْك أسفل. ولعل ذلك يكون في جملة أسباب أخرى تقود إلى إنتاج نظرة قدحية إلى السلطة: النظرة التي قد تكون غالبة في المجتمعات التي تعاني فقرا في الثقافة السياسية والمؤسسية. ما يعنينا هو، في المقام الأول، ما يمكن أن تفضي إليه نظرة أخرى إلى السلطة من نتائج إيجابية؛ نظرة غير قدحية ولا تهويلية طبعا. حين نعرف السلطة بأنها وسيلة من وسائل المجتمع والجماعة الوطنية لتحقيق المصالح العامة وتعظيمها، ستكون- عند ذاك - موضع حرمة واحترام جماعيين، وسيسلك التنافس عليها - حينها - مسلكا شريفا، أي قانونيا ومشروعا... وأخلاقيا يناسب الهدف الذي عليه مبنى التنافس.