الطفرة النفطية واستحقاقاتها العمانية «القصيرة والمتوسطة»
تخرج الطفرة النفطية الراهنة من رحم أزمة نفطية قلبت كل المفاهيم والأفكار التي سادت خلال الخمسين عاما الماضية في كل دولة خليجية، وحولت سياساتها المالية والاقتصادية من النقيض إلى النقيض، شكلا وجوهرا، وبسرعة زمنية فائقة، وغير متدرجة تحت قلق نقصان السيولة المالية، وانكشاف حجم المديونية الضخم، وزاد من سرعة تحولاتها أزمة كورونا التي هددت الوجود البشري على الأرض، وأنفقت عليها الحكومات الأموال الطائلة، غير أن الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 من فبراير 2022 قد حولت موازنات الدول النفطية إلى فوائض مالية بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز.
وتتزاحم الرؤى بين الدول الخليجية الآن حول كيفية إنفاق هذا الفائض بين تخفيض المديونية، أو تخزينه في البنوك المركزية، أو توزيعه بين الأجيال.. الخ، وكلها خيارات موضوعية، لكن، لهذه المرحلة استحقاقات في الأجلين القصير والمتوسط، لا تؤجل، وينبغي ألا تسقط في زحمة الرؤى والطموحات، فهناك أولويات قد لا تبدو الآن ضاغطة على المسير، لكنها ستكون كذلك على المصير، لذلك لا بد من إعمال الفكر الثاقب على الرؤى الوطنية التي ينبغي أن تحظى بجزء من اهتمامات الفوائض المالية.
وينبغي التأكيد مجددا على أن التساؤل حول كيفية إنفاق الفوائض، لا يعني عدم وجود رؤية حكومية، لكنه يفتح المجالات الواجبة والمستعجلة التي ينبغي أن تواكب مسيرة تأسيس المرحلة المستدامة، وبالذات بشان إقامة اقتصاد وطني جديد، ومواجهة تحديات عصر الثورة الصناعية الرابعة، وطبيعة النظام العالمي الذي سيتأسس بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وهنا ينبغي إعمال الفكر في التأكيد على الضمانات الآمنة للمسير وللمصير معا، ثم ضوابطها، قبل الحديث عن تلكم المجالات الواجبة والضامنة والحاكمة لمستقبل الاستقرار الاجتماعي، نظرا لطبيعة المكون الاجتماعي ببعديه التاريخي والديني، وفي حالات ينبغي أن نضيف البعد الترابي/الجغرافي للمكون الاجتماعي.
أولا: ضمانات المسير والمصير معا.. ونحصرها في النقاط الآتية:
- الضرائب والرسوم لا ينبغي أن تكون بديلا عن الاقتصاد الإنتاجي.
- الدولة الاجتماعية هي خيار مصيري للدولة والمجتمع معا، مهما كانت التحولات الاقتصادية والمالية، والضغوطات السياسية الدولية.
- قوة الدولة الحقيقية تكمن في قوتها الناعمة، وهذا الاستشراف سيتعاظم إذا ما تأسس نظام دولي جديد متعدد المراكز أو الأقطاب في ضوء حالة الأعداء التي تصنعها الحرب الروسية على أوكرانيا، وحالة الاستقطابات الدولية والإقليمية الجديدة.
- الدولة الاجتماعية بريئة من النظام الريعي حتى تتحمل مسؤولية فشله، وإنما هي خيار سياسي تمليه بنية الدولة، ولن تتعارض مع النظام الرأسمالي «ألمانيا نموذجا».
- الانفتاح الحديث على الخارج ينبغي أن يكون على أساس قاعدة اجتماعية قوية ومتماسكة، عارفة بحقوقها وواجباتها، وطبقة وسطى تشكل الأغلبية.
- نجاح الحكومة الآن في تجاوز الخطر المالي يعيدها إلى الطريق التنموي الصحيح - كما يرى خبير دولي - وينبغي في الوقت نفسه أن تصحح بعض المسارات المالية والاقتصادية لدواعي صناعة التفاؤل الاجتماعي.
ثانيا: أهم ضوابط المشروعات الجديدة، ونختصرها في الآتي:
- عدم المبالغة فيها، وتركيز التنويع الاقتصادي على النوع وليس الكم، وعلى وجه الخصوص الزراعة والسياحة، وتلكم التي ستصنع اقتصادنا الجديد - سيأتي ذكرها لاحقا.
- تأهيل مواردنا البشرية للثورة الصناعة، وتكوين جيل التقنية والخبرات، وأن تكون مرتبطة بالاقتصاد الجديد الذي يتم تأسيسه الآن، بحيث تكون هناك تلازمية وجودية مستهدفة لذاتها بين التأسيس والتكوين - كما سيأتي التفصيل فيها لاحقا.
- عدم مسايرة الدول الخليجية في طموحاتها المستقبلية التي بعضها أقرب للديموغوجية، ويرتبط نجاحها بعوامل سياسية، وبتنافس فيما بينها، ويمكن أن تذوب في أية لحظة، وتخسر المليارات.
- أي تفكير طوباوي ستكون نهايته الفشل، وهذا ما يحدث خليجيا.
ثالثا: الاستحقاقات الوطنية في الأجلين «القصير والمتوسط».
هي استحقاقات تلازمية - كما أشرنا إليه سابقا - بمعنى أنها تستوجب تحقيقها مع تحقيق الأجندات الوطنية المتوسطة وطويلة الأجل التي تعتمد على الواقعية وليس الطوباوية، وسأتناولها اختصارا في نقطتين:
اجتماعية خالصة.
تتاح الآن فرصة إعادة صناعة مستقبل مفهوم التوازن الاجتماعي بصورة مثالية، بعد الاختلالات التي تنتجها سياسات مالية واقتصادية منذ يناير 2020، وهذه فرصة للبلاد ربما تكون حصرية عليها دون غيرها من الدول الخليجية، باستثناء الرياض، لأنهما لا تزالان تحتفظان بالتفوق العددي لسكانهما الأصليين عن الوافدين والأجانب، ولأنهما من الآن تحت ضغوطات اجتماعية قوية بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وستتزايد الضغوطات تباعا، لذلك، فلا بد من تخفيف الضغوطات المالية، وتغيير بعض المفاهيم المستجدة على المنطقة، كمفهوم حماية «طبقة الأجور الضعيفة».
ففي الخليج يدور الحديث الآن بعد الطفرة النفطية الجديدة عن مضاعفة ميزانية هذه الطبقة، أما في دولة كسلطنة عمان، وللاعتبارات سالفة الذكر، فنرى أننا لا ينبغي أن نساير هذا المفهوم، وتدعو الحاجة إلى الاستبدال به مفهوم حماية «الطبقة الوسطى» وذلك لعدم وجود الفواصل المالية الكبيرة بين الطبقتين، والأهم الذي يشغلنا كثيرا هنا، الحفاظ على متانة وحصانة قوتنا الناعمة التي تتميز بها بلادنا ليس إقليميا بل عالميا، وقد أثبتت نجاعتها في الكثير من الأزمات خلال الحقبة السياسية الماضية، وستحتاج لها البلاد مستقبلا، لذلك نرى أنه من الأهمية الوطنية تخصيص ميزانية جديدة من الفوائض المالية الجديدة، لحماية الطبقتين الضعيفة والمتوسطة.
استحقاقات اجتماعية واقتصادية.
وبقليل من التفكير يمكن أن يدخل فيها الاستحقاق السياسي كذلك، ويمكن أن تفهم ضمن السياقات -للاختصار- وهي تتعلق بتكوين مواردنا البشرية لمستقبلين يتأسسان من الآن بصورة واضحة، وقد قطعت الحكومة في أحدهما خطوات رائعة ومتفائلة جدا، وهو الاقتصاد الهيدروجيني، والآخر الثورة الصناعية الرابعة، ومن هنا تظهر قضية التلازم بين هذا التأسيس الاقتصادي، وبين تكوين مواردنا البشرية حتى نصل لمرحلة التلاقي بين نهايتي التأسيس والتكوين، وإنتاج اقتصاد وطني يعتمد على خبرات وأيد ماهرة عمانية.
ففي الأول تتوجه الحكومة نحو الاقتصاد الهيدروجيني بسقف طموح جدا، يجعل السلطنة دولة مصدرة للهيدروجين للقارتين الآسيوية والأوروبية، وستنفرد وتتميز البلاد في هذا الاقتصاد بحكم إمكانياتها الواعدة، وجيوستراتيجيتها المطلة على البحار المفتوحة، والبعيدة من بحار ومضايق التوترات الدائمة، والمتصلة بكل قارات العالم، وتعمل مسقط مع تحالف دولي لبناء واحد من أكبر مصانع الهيدروجين الأخضر في العالم، بتكلفة 30 مليار دولار، وكما يقول الخبراء فإن الهيدروجين الأخضر يعد عنصرا أساسيا في الانتقال نحو الطاقة المتجددة عالميا، كما يعد أحد أنواع الوقود البديلة الواعدة مستقبلا، وكما يطلق عليه بالنفط الجديد.
وهنا ينبغي أن تتدخل الفوائض المالية في تكوين جيل تقني وتشكيل خبرات عمانية من الوزن الرفيع من الآن في مجال الاقتصاد الهيدروجيني وتقنياته، فالاقتصاد الهيدروجيني سيوفر الآلاف من فرص العمل، فينبغي أن نؤهل لها شبابنا كما ونوعا، والتفكير نفسه ينبغي أن ينصب كذلك على متطلبات الثورة الصناعية الرابعة، فهي ستزلزل مجموعة كبيرة من الأعمال، فالخبراء يرون أنها ستدمج الذكاء الاصطناعي والإنسان والهندسة البيولوجية والتكنولوجيا الحيوية، حتى الشفاء - كما يرون - سيكون ذاتيا من خلال تكنولوجيا بيولوجية غير مسبوقة.. الخ، وفي هذه الحقبة الزمنية المقبلة، هناك وظائف ستختفي وأخرى ستنمو، والتفكير ذاته يذهب بنا إلى اقتراح التركيز على استيعاب آخر تكنولوجيا تحلية المياه، ومتابعة آخر تطوراتها، لدواعي المستقبل الزراعي سواء طالت المنطقة موجة الجفاف التي تهدد أجزاء من العالم الآن، أم تعلق الأمر بحاجتنا الزراعية لمياه إضافية، وهي متوفرة في بحار سلطنة عمان.
وأخيرا، نقترح تشكيل لجنة عليا من مختلف التخصصات، لدراسة هذا الملف الاستراتيجي من كل جوانبه لتحضير البلاد لمواجهة التحديات التكنولوجية والبيولوجية المذهلة، وتداعياتها السياسية والعسكرية والأمنية المستقبلية، وما قدمناه ليس سوى أفكار تتناغم مع المشروعات التي ستشكل قوتنا الاقتصادية الجديدة، بينما هناك مسارات تفكير أخرى ذات أعماق استراتيجية شمولية، ينبغي أن تطرح فوق الطاولة، ويرسم لها الخطط الاستراتيجية، ووسائل تنفيذها، مع التذكير أن العالم الآن في حروب صامتة، ومن سيخرج منها منتصرا سيحافظ على استقلاله وسيادته ومصالحه أو العكس، والانتصار هنا سيكون تكنولوجيا وبيولوجيا.. الخ، ولن ينجح من يقوم به بديلا عن الدول، ومعها ستختفي الحروب التقليدية.