الطّبيعة وعنـفُ التّـكنولوجيا
تُضْمِـر التّكنولوجيا قدْرًا من العـنف في ذاتها وفي نظام اشتغالها من حيث هي منظومةٌ من الوسائل الموضوعة برسمِ تطويع أشياء العالم والسّيطرةِ عليها وتسخيرها للأغراض التي يقدّرها مستخدمها؛ وهذه جميعُها عمليّاتٌ تستدعي، حُـكْمًا، قدرًا من العنف لتحقيقها. وإذْ تُـجسّـدُ التّـقنيّـة نتائجَ العلم، تتّـخذ لنفسها هيئاتٍ وصُورًا مختلفة تبعًا لنوع الوظائف التي رُسِـمَت لها. وهي، بذلك، إذْ تنفصل عن العلم، في الغالب من الأحوال، وتَـخرُج من حومته بما هي معرفةٌ أو حصيلةٌ للمعرفة، تتحوّل إلى أداةٍ مجنَّـدة لتحقيق أهدافٍ ما كانت، دائمًا، في جملة أهداف العلم ولا دارت بِـخَلَدِ أيٍّ من العلماء في مختبراتهم. ومعنى هذا أنّ عنفَها المُضمَر - الذي أومأنا إليه - ليس مَـأْتاهُ من معرفةٍ علميّةٍ تكوّنت بها تلك التّـقنيّـة، بل منها هي نفسها؛ من «طبيعتها»، ومن وظائفها التي تُـجَنَّـد لتأديتها.
ليس عنْـفُ التّكنولوجيا من قبيل كـلِّ عنفٍ آخـر في الطّبيعة؛ فهو ليس عنفًا طبيعيّـًا بل عنفٌ اصطناعيّ يُولِّـد طاقـتَـه الخاصّة المضاعَـفَة التي قد لا تناظِـرُها طاقةُ أشكالٍ أخرى من العنف الطّبيعيّ. وبيان ذلك أنّ نسبة القدرة على إتيان فعْـلِ العنف لدى أيِّ كائـنٍ طبيعيّ - حيّ أو لا عضويّ - تقترن بِـنسبةِ القـوّة لدى ذلك الكائـن وتَـتْبَع لها. ولمّا كانت قـوّة التّكنولوجيا عالية ومضاعَفَة بحيث تُكـثِّـف فيها درجاتٍ عـدّة من قوى الطّبيعة، كان العنفُ الملازمُ لها أعلى، بالتّبعة، من غيره وأشدَّ كثـافـة. وإلى العنف الماديّ التّكنولوجيّ هذا، ينضاف عنفٌ ثانٍ إلى التّـكنولوجيا مَـأْتَـاه -هـذه المـرّة- من الوظائف التي تُكال إليها من قِـبَل مَن يسخّرونها لخدمة مصالحهم. تبدو التّـقنيّةُ حاملةً لإيديولوجيا محايِـثة، هنا، هي إيديولوجيا القـوّة لمجرّد أنّها موضوعة برسم الاستخدامِ المُغْـرِض، أي الذي يتغيّـا غرضًا بعينه هو إخضاعُ الموضوع (الطّبيعيّ الإنسانيّ) الذي يقع عليه فعْـلُ التّـقنيّـة.
المبدأ الأساسُ، إذن، الذي يُـبْنى عليه فعْـلُ العنف التّكنولوجيّ والذي يسوِّغ هذا العنفَ هو تحقيقُ السّيطرة على موضوعات العالم الخارجيّ، وإخضاع أشيائه إليها لتعظيم المنافع. أمّا لماذا يميل فعْـلُ السّيطرة إلى التّعبير عن نفسه من طريق العنف، فلأنّ السّيطرة تقتضي الإخضاع، وهذا قد يستدعي قـدْرًا من العنف، ثمّ لأنّ السّيطرة تبغي حـرْق المسافات والأزمنة قصد التّحقُّق؛ والتّكنولوجيا - بما هي تحويلٌ عنيف للنّظام الطّبيعيّ للأشياء - هي التي تنهض بتلك العمليّة من اختزال الزّمن والوقت. عنف التّكنولوجيا، بهذا المعنى، ملازِمٌ للتّـكنولوجيا، وهو - كمثل أيِّ عنفٍ - فِعْـلُ إخراج الشّيء من نظامه الطّبيعيّ أو من هيئته الطّبيعيّة قصد التّحكُّم فيه وتسخيره. إنّ هذا النّـزْع القسريّ للأشياء من أوضاعها الطّبيعيّة هو العنف في تعريفه الدّقيق؛ وماذا تكون الصّناعة والتّكنولوجيا غير ذلك العنف الخارجيّ، «العلميّ» والآليّ، المُمارَس على الطّبيعة بغية إخضاعها والسّيطرة عليها وتسخيرها؟!
كان جاستون باشلار، الفيلسوف والعالِم الفرنسيّ، قد ذهب إلى التّنظير لِمَا بين التّـقنيّة والطّبيعة من قطيعة في دراسته نظامَ المعرفة العلميّة. وهي قطيعة يُـفضي إليها العِلم حكمًا؛ إذِ العلمُ يقاطع الطّبيعة كي يُشـيِّد تقنيّـة، وذلك لا يكون سوى بمعرفة العِـلم نظامَ الطّبيعة وتأسيس نظامٍ موازٍ له هو النّظام التّـقنيّ والصّناعيّ. تبدو هـذه الموضوعة الباشلاريّة مفيدةً من وجهة نظر الإيپيستيمولوجيا وفلسفة العلوم؛ من حيث إنّها تَدُلُّنا على تلك العلاقة المزدوجة التي يقيمها العلم مع الطّبيعة. فهو، من وجهٍ أوّل، أعلى أنماط المعرفة إدراكًا لنظام الطّبيعة (إذا قيس بالفلسفة أو الثّيولوجيا أو غيرهما) لأنّ مبْناه على الملاحظة المَخْبريّة والنّظام الفرضيّ والاختبار التّجريبيّ لا على التّـأمُّـل، لذلك ينتهي إلى تقديمِ معرفـةٍ دقيقةٍ بموضوعاته الطّبيعيّة ولكنّها غير نهائيّة، بل مفتوحة على مزيدٍ من التّجديد والتّدقيق (حيث القاعدة عنده أنّ العلم يتعلّم من أخطائه)؛ وهو، من وجهٍ ثانٍ، يفارِق الطّبيعةَ -بعد اكتشافه نظامَها وقوانينَها- لكي يقـدّم نفسه في صورة نتائج قابلة للاستثمار الماديّ من طريقِ نظامٍ مـوازٍ للطّبيعة هو التّـقنيّـة.
قطعًا لا أحد من العلماء مسؤولٌ عن مآلات معرفـته العلميّة، أي عن استثمار نتائجها لأغراضٍ أخرى غير العلم؛ فهذا يقع بفعل فاعلٍ آخَـر هو الدّول والشّركات والمؤسّسات الاستثماريّـة من تلك التي تستثمر نتائج العلم وتستخدمها الاستخدامات المختلفَةَ. ولكن كما أنّ كثيرًا من العلماء يرتبطون بتلك الشّركات والمؤسّسات الاستثماريّـة من تلك التي تستثمر نتائج العلم وتستخدمها الاستخدامات المختلفَةَ. ولكن كما أنّ كثيرًا من العلماء يرتبطون بتلك الشّركات والمؤسّسات وينخرطون في أعمالها فيحـوِّلون نتائج العلوم إلى تقنيّات، فإنّ بعضًا من هؤلاء يدركون -على الحقيقة- أنّ ما يفعلونه بإنتاجهم تلك التّقنيّات - بوصفهم مهندسي الإنتاج - لا ينتمي، دائمًا، إلى رسالة العلم. نعم، يوجد فارق بين تقنيّاتٍ تدخل في باب تنمية الحياة الصحيّة للكائنات الحيّة، بما فيها الطبّ والصّيدلة ووسائل الجراحة، مثلًا، وتقنيّات أخرى تدخل في باب تدمير الطّبيعة والحياة وتتراوح بين هندسة السّموم والڤـيروسات وإنتاج القنابل النّوويّـة والجرثوميّة. مع ذلك، ينبغي أن لا نُحَـمّل العلم والعلماء أوزار التّـكنولوجيا؛ لأنّ العلم - من حيث هو كذلك: في ذاته - لا إيديولوجيّة فيه والتّكنولوجيا مُشَـبَّعة بالإيديولوجيا لأنّها مركَّـبَة، حيث التّكنولوجيا = علم + استراتيجيّات تطبيق واستخدام + أهداف ومصالح.
على أنّ هذا العنف التّكنولوجيّ التّدميريّ للبيئة وللنّظام الطّبيعيّ لم يمرّ من دون أن تدافع الطّبيعة عن نفسها في مواجهة جراحاته القاتلة، ومن دون أن تنتقم لنفسها منه، وما هذه الأوبئة التي تتفشّى في العالم وتتولّد من آلاف الڤيروسات الجديدة المتأقلمة مع تغيُّرات النّظام الطّبيعيّ؛ ومع هذه الموجات المتعاقبة من الاحترار والجفاف والفيضان وذوبان الجليد وارتفاع منسوب المياه في البحار والمحيطات... إلاّ بعض دفاع الطّبيعة عن نفسها وعن نظامها في وجه الانتهاك الصّناعيّ - التّكنولوجيّ لذلك النّظام. هكذا يوَلِّد العدوانُ على الطّبيعة مقاومةً من الطّبيعة في شكل اختلالات لنظامها، أو يُـوَلّـدِ جنونُ التّقنيّة جنونَ الطّبيعة.