الطبيب والحكيم
ألاحظ في الواقع المعاش أن أكثر الناس قدرة على استشراف النفس البشرية بطموحاتها وتعقيداتها هم الأطباء، ولا أقصد بالأطباء من اتخذوا الطب مهنة، بل من اتخذوه رسالة، يشعرون بمعاناة الناس، الفقراء منهم على وجه الخصوص، ومن ابتلاهم الله بأمراض استعصت على الأطباء، أعرف الكثيرين منهم، وهم في الغالب متذوقون للفنون، محبون للحياة، شغوفون بالأدب، منفتحون على تجارب إنسانية كثيرة في مجالات الثقافة والفنون، أراهم يترددون على دار الأوبرا يتابعون ما هو جديد في مجال النشر في مختلف مجالات الثقافة، غالبا ما يتسمون برقة المشاعر، ليس مع مرضاهم فقط وإنما مع كل من يتعامل معهم.
أنا شخصيا لا أثق في الطبيب المنقطع الصلة بالحياة وهموم الناس وآلام المرضى، عرفت في حياتي أطباء بدرجة «حكيم»، ورأيتهم دائما من أكثر الناس إخلاصًا في أداء رسالتهم، واللافت في هذه الظاهرة أن بعضهم مع نهاية تجربته في الحياة تستهويه كتابة مذكراته، حينما يسجلون تجربتهم المهنية ومسيرة حياتهم، وبعضهم يكتب عن حياته الشخصية، كما كتب نجيب محفوظ «الطبيب» (١٨٨٢-١٩٧٤) رحلته في الحياة، وتجربته في مهنته التي اختارها لكي يصبح واحدا من أشهر أطباء العالم في الجراحات العَسِرة في مجال التوليد، وبالمناسبة هو الطبيب الذي ولد على يديه أديبنا الكبير نجيب محفوظ (١٩١١)، لذا اختار والده أن يسميه نجيب محفوظ على اسم هذا الطبيب العظيم، الذي تخصص في جراحات التوليد، وكان هو الطبيب الخاص لأسرة الملك فؤاد، ومن بعده الملك فاروق، وكل الوزراء وكبار القوم في المجتمع المصري لما يقرب من أربعين عاما، وقد تجاوزت شهرته مصر إلى كثير من المؤسسات الطبية الكبرى في العالم.
رغم هذه الشهرة الكبيرة، فقد كان يخصص من وقته يومين كل أسبوع لعلاج الفقراء وإجراء الجراحات في أحد الأحياء الشعبية «بولاق»، وقد كتب مذكراته وهو في التسعينات من عمره، سجل تجاربه في الحياة، ودوره في إدخال طب النساء والتوليد في مستشفى قصر العيني، بعد أن كان هذا التخصص قد توقف لأكثر من نصف قرن، بعد أن أفتى بعض الشيوخ بعدم جواز قيام الرجال بهذه المهمة، واقتصارها على النساء «القابلات»، مما كان سببا كافيا في وفيات أكثر من ثلث المواليد والأمهات، حتى ظهور نجيب محفوظ الذي أنشأ مدرسة في هذا التخصص من خلال أجيال متعاقبة تتلمذوا على هذا الحكيم الكبير، وقد ابتعثتهم الدولة إلى أرقى جامعات العالم، عادوا بعدها لكي يشاركوا مع أستاذهم نجيب محفوظ في تكوين مدرسة علمية في جراحات النساء والتوليد، وقد سجل نجيب محفوظ كل تجربته في مذكراته التي كتبها ونشرتها الهيئة العامة للكتاب في ستينات القرن الماضي، إلا أن اللافت للنظر في هذه التجربة حديث الرجل عن شغفه بالموسيقى والمسرح ومختلف فنون الأدب، ومشاهداته للعروض الأوبرالية في مصر وخارجها.
عرفت مصر نماذج كثيرة من هؤلاء من بينهم الدكتور إبراهيم بدران أستاذ الجراحة بطب قصر العيني، وأشهر جراح أحبه الفقراء، الذي كان يتولى علاجهم مجانا في مستشفاه الخاصة، وفي هذا السياق يأتي الدكتور مصطفى الرفاعي أستاذ المسالك البولية في طب الإسكندرية، والدكتور محمد غنيم الذي أحدث طفرة في جراحة المسالك البولية في العالم، والدكتور فؤاد النواوي وهو الطبيب المغرم بفنون الأوبرا، كثيرون غيرهم من بينهم يوسف إدريس ومن قبله علي باشا إبراهيم وعبد المنعم السباعي ومصطفى محمود، كل هؤلاء كانت الثقافة مفتاح شخصيتهم، وبقدر انفتاحهم على مجالات الطب وتزودهم بالقدر الكافي من المعارف الثقافية والفنية كانوا على درجة عالية من المهارة الطبية والمشاعر الإنسانية. وليس مطلوبا أن يكون الطبيب ممارسا للفنون الثقافية والفنية، وإنما المهم أن يكون متذوقا لها، لديه عين فاحصة وأذن صاغية ومشاعر فياضة وأحاسيس مفعمة بقيم الجمال، لهذا فكل من مسته ذائقة الثقافة والفنون غالبا ما يكون إنسانا بكل معاني القيم الإنسانية.
في بداية هذا العام (٢٠٢٤) نشر الدكتور جمال مصطفى سعيد أستاذ جراحة الأورام بكلية طب قصر العيني كتابا تناول فيه تجربته مع مرضاه التي اقتربت من نصف قرن، تحت عنوان (الألم والأمل.. مشرط الجراح وضفائر الدم)، وهي تجربة لا تندرج تحت ما يمكن تسميته بالمذكرات الشخصية، وإنما هي تجربة ترتبط بوظيفة الحكيم اليومية، وفي تعامله مع مرضاه، وقد أوجزها في مائتين وسبعين حكاية، جميعها تتعلق بمعاناة مرضاه وكيف تعامل معهم، وكلها مواقف إنسانية تراكمت عبر ما يقرب من خمسة عقود، والمدهش في حكايات الدكتور جمال أنه قد كتبها بلغة رشيقة ممتعة تتضمن كل عناصر التشويق، إلا أن جميع حكاياته تتعلق بمهنته وكيفية التعامل مع مرضاه، وكما ذكر الدكتور جمال: «لم أكن أستطيع أداء مهمتي بهذا القدر من الفيض الإنساني إلا لأن أمي قد علمتني كل هذه القيم وكانت كلمتها دائما تتردد في أذني (إياك أن تأخذك الأموال من ضميرك يا جمال)».
جميع حكايات الدكتور جمال بمثابة تجارب صادقة مع مرضاه، وكل ما ورد في هذا الكتاب لم يذكر اسم أي مريض منهم، لكن كل ما ورد فيه يمكن قراءته وكأنك تشاهد فيلما روائيا يأخذك من قصة إلى أخرى، ابتداءً من الموضوع الأول (ما الدنيا إلا مستشفى كبير) وغيره من الموضوعات الأخرى من قبيل (هوانم جاردن سيتي) و(شنطة حمزة) وهي الحقيبة التي تلازم الدكتور جمال سواء في عطلاته الخاصة أو حتى في سفرياته داخل مصر أو خارجها، حيث يحمل بعض المعدات الطبية التي هي أقرب إلى الإسعافات الأولية، وكثيرا ما واجه في سفره وترحاله مفاجآت استدعت تدخل طبيب بشكل عاجل، في الطائرة، في المطار، على الطريق العام، وفي كل مرة يكون الجراح جاهزا لإنقاذ مرضى لا يعرفهم ولا يرتبط بهم، إلا أنهم بشر في حاجة إلى إنقاذ حياتهم.
من بين الموضوعات التي حكاها الدكتور جمال، حكاية الشاب الذي رمز له باسم أكرم، وهو ليس اسمه الحقيقي قطعا، هو شاب متعلم في أوروبا، من أسرة ثرية ذهب إليه في عيادته برفقة خطيبته، وبعد أن قدم إليه كل التقارير والأشعات والتحاليل اللازمة، تبين أن الشاب في حالة ميؤوس من شفائها، وأن المرض الخبيث قد ضرب كل الأجزاء الحيوية من جسمه، إلا أن الغريب في الأمر أن الشاب قد أخبر الدكتور جمال أنه وخطيبته قد قررا زفافهما بعد يومين والسفر إلى باريس لقضاء شهر العسل، لم يستطع الطبيب الإنسان إلا أن يصارحهما بالحقيقة، إلا أن الشاب وخطيبته كانا على بينة من حقيقة الحالة، ورغم ذلك فقد عزما على إتمام الزواج، وقد طلب الدكتور جمال منهما عنوانهما في باريس ورقم تليفون الشاب، وبعد مضي أسبوع من زيارتهما له شعر الطبيب الإنسان أنه يود الاطمئنان عليهما، وأمسك بالهاتف واتصل برقم هاتف الشاب إلا انه لم يرد، وشعر بالقلق واتصل بالفندق الذي يقيمان فيه، وأحالوه إلى هاتف الغرفة، إلا أن أحدا لم يرد، فعاود الاتصال بالفندق وأبدى قلقه عليهما، وصعد المسؤول عن الغرف ودق عليهما الباب، إلا انه لم يجد استجابة، فما كان منه إلا أن أقدم على فتح الغرفة، ليجد الشاب ممددا على الأرض وزوجته تحتضنه والدماء تسيل من يديها وقد فارقا الحياة.
هذه القصة المؤلمة وقصص أخرى كثيرة أوردها الدكتور جمال في كتابه (الألم والأمل)، لم يكن في استطاعتنا أن نتعرف على المشقة التي يتعرض لها الطبيب، وخصوصا حينما يكون حكيما بالمعنى الإنساني والاجتماعي، فضلا عن مقدرته على أن يحكي تجربته بلغة شائقة مفهومة، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان كاتب المذكرات قد مسّته غواية الأدب والثقافة، إضافة إلى أن الطبيب يصعب أن يكون حكيما إلا إذا كان لديه قدر كبير من الإنسانية في تعامله مع مرضاه.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).