الطابع الاحتيالي لتداول العملات الرقمية
جاءت العُملات الرقمية -التي تعتمد على التبادل المالي المباشر بين المستخدمين بدون وجود وسيط بنكي أو مؤسسي- بوعدٍ مفاده أنه مع اكتساب جمهور أوسع الثقة بهذه العُملات سيبدؤون ربط الأصول ذات القيمة الحقيقية بهذه العملة. وأنها من هنا -مع هجرة مُتعاملين أكثر إليها- تكتسب قيمتها الاقتصادية.
عقب انهيار بورصة FTX نشرت مجلة كرينت افيرز Current Affairs اللقاء الذي أجراه رئيس تحريرها ناثان ج. روبينسون (Nathan J. Robinson) مع مهندس الأنظمة ستيفن ديهل (Stephen Diehl) الذي كان قد شارك في تأليف كتاب حول الموضوع يحمل عنوان (Popping the Crypto Bubble) يُمكن أن يُترجم إلى «تفجير فقاعة الكريپتو»، والذي يسرد قصة العملات الرقمية باعتبارها انعكاسا تكنولوجيا للتاريخ الاقتصادي الحديث. يُجادل الكُتّاب أن العملات الرقمية هي امتداد لموضات اقتصادية عديدة تحمل بذرتها التدميرية في رحمها. وبهذا تكون هذه التكنولوجيا الجدلية مجرد فقاعة -تكبر مع نمو قاعدة المتداولين بها- بانتظار أن تنفجر أخيرا. المقابلة منشورة تحت عنوان (The Entirely Predictable Collapse of FTX Exposes the Failures of Regulators and Journalists) الذي يُمكن أن يُترجم لـ«الانهيار المتوقع تماما لـ FTX يفضح إخفاق المنظمين والصحفيين». في مقال اليوم أستعرض أهم النقاط التي أُثيرت في المقابلة، وأنقل أهم ما جاء فيها إلى العربية.
الكتاب والمقابلة مهمان من حيث أنهما يؤسسان لفكرة أن العملات المشفرة (ليس من حيث هي عليه اليوم فقط، ولكن بحكم منطقها الأساسي) هي أقرب للاحتيال منها لبديل عن المال. وأن خصخصة المال في العموم تنتصر لمالكي العُملات الرقمية الأوائل وهي تخدم أثرياء التكنولوجيا دون أن تحمي المتداول «العادي». المتداول الذي أُقنع أن هذا هو المستقبل عبر الزخم الصحفي والإعلاني.
أولا: موضات السوق
يُجادل ديهل أن العملات المشفرة مجرد موضة، وأنها ستنتهي ما إن تنفجر فقاعتها. يقول: «ثمة العشرات من الأمثلة -عبر التاريخ- على مثل هذا النوع من المينيا (mania) المالية، لعل أقدمها يعود للهوس بالزنبق في القرن السابع عشر.. وإذا ما تمعنت في الصيرورة التاريخية، ستبدأ بملاحظة نمط مشترك. ثمة لحظات غير عقلانية في الأسواق يصبح فيها الناس مغرمين بسردية حول نوع من الأصول المالية أو السِلع. فجأةً، يُصبح سعر هذه الأصول غير مؤسس على الواقع وغير مرتبط به. يحتشد الناس حول هذه الفقاعة متأملين جني المال من ورائها. لا يعود هذا لأي قيمة جوهرية لها، أو أي نوع من التدفقات النقدية، ولكن لأنهم ببساطة قادرون على التخلص منها لأحمق آخر. في حالة الزنبق -خلال القرن السابع عشر- استمر جنون السوق هذا لحوالي ستة أشهر، وباع الناس زهرة الزنبق بسعر منزل صغير. كان الجميع يضارب على الزنابق، حتى أنهم طوروا اقتصادًا كاملا -يتم تبادل السلع الأخرى فيه- بالاستناد إليها.»
يُمكن لمعترض أن يقول إن قيمة العملات المشفرة -وإن كانت قيمتها الجوهرية صفرا- تأتي من المتحمسين لها، فإن وُجد ما يكفي من المؤمنين بها، والمتعاملين على أساسها، فيُمكنها أن تحل محل المال وإن في دائرة ضيقة كما يحصل الآن. لكن اعتراض ديهل الأساسي في كون قيمتها شديدة التذبذب وأنها لطبيعتها لن تؤول للثبات.
ثانيا: لن تصل العملات الرقمية إلى الثبات
يُلخص ديهل الموضوع في الآتي: «ليس ثمة نقود تتدفق إلى البيتكوين.. وإذا ما نظرنا إليها باعتبارها استثمارًا، فإن مصدر المال الوحيد الذي يُدفع للأشخاص الذين يبيعون في النهاية، آتٍ من مستثمرين جدد يدفعون للمستثمرين القدامى، وهو بالضبط ما يحدث في اقتصاديات الاحتيال الهرمي (أو هرم بونزي). وإذا ما تمعنت في الاقتصاد الأساسي لهذه العملات، فبالإمكان أن ترى لماذا لا يصلح أن يحل محل النقود. فالعرض ثابت [عدد العملات مُعين سلفا]، بينما الطلب عليها متغير؛ إذ يتعامل معها الناس على أنها استثمار عبر المضاربة. كما نعرف من مقدمة دروس الاقتصاد، تُحدد الأسعار عبر نقطة التوازن بين العرض والطلب [سعر يرضى البائع بقبضه والمشتري بدفعه]، وإن كان ثمة طلب متغير وعرض ثابت، فماذا تكون النتيجة؟ تقلّب في الأسعار. وإذن، فالعملة المشفرة توجد وتعمل دائمًا في فضاء عشوائي متذبذب تصعد وتهبط بجموح بناءً على مشاعر السوق غير المتوقعة. يبدو هذا أشبه بكازينو منه بسوق حقيقي، نظرًا لعدم وجود سلع أو خدمات يتم تبادلها فعليًا في هذه العملية.»
ثالثا: كيف خلص الكاتب إلى أن المضاربة بالعملات الرقمية هو نوع من الاحتيال الهرمي؟
صحيح أنه ليس للعملات المشفرة قيمتها الجوهرية، لكننا نرى مثل الظاهرة تتجلى في مواقع أخرى مثل الفن. حيث نرى لوحة فنية تباع، ويُعاد بيعها، فما الذي يجعل المضاربة بالعملات الرقمية مختلفة عن ذلك؟ يبقى أن للعمل الفني وإن فاق قيمته «الحقيقية» قيمة فنية، أو على الأقل قيمة معنوية لحائزه، بينما لا يتوفر هذا للعملات المشفرة. فوق هذا، فإنه سيكون لهوس المضاربة -من وجهة نظر ديهل- ضحاياه حين تُفقع الفقاعة. سيكون الضحايا هم المشترون الجدد الذين لن يجدوا من يشتريها منهم بعد أن تذهب موضتها، أو مع انهيار بورصات التداول كما حدث مع FTX. الأمر المثير في هذا النوع من الاحتيال أن الناس تتطوع لتكون المحتال، دون دعوة مباشرة من قمة الهرم للقاعدة.
رابعا: علاقة العملات الرقمية بالخصخصة وتيار اليمين
يقول ديهل: «إذا ما نظرت إلى تصميمها [العملات المشفرة]، ونظرت إلى ورقة Satoshi البيضاء الأصلية [الاسم المستعار للشخص/الأشخاص الذين جاؤوا بفكرة البيتكوين، وأنشأوا أول قاعدة بيانات بلوكتشين] والمنتديات التي كانت تتحدث عنه، ستجد أن لديهم وجهة نظر خاصة جدًا عن الدولة ودورها في حياتنا اليومية. مثلهم في هذا مثل الناس في وادي السيليكون، والذين يُطلق عليهم «التحرريون التقنيون». إنهم يعتقدون أن البرمجيات والإنترنت وسائل لتفكيك المؤسسات الديمقراطية واستبدالها بالبرمجيات. إنها وجهة نظر غير تقليدية للغاية لا تنتشر على نطاق واسع خارج وادي السيليكون، لكنها وجهة نظر شائعة جدًا في هذا المجال بالذات، وتراها مضمنة في فضاء العملات المشفرة. أصحاب وجهات النظر هذه لا يريدون حقًا أن يكون لديهم مؤسسات. لا يريدون أن يكون لديهم تنظيم. لا يريدون أن تكون لديهم قوانين. إنهم لا يريدون أن يكون لديهم نفس النوع من الضمانات العادية التي لدينا حول المنتجات المالية المنظمة. إنهم يعتقدون أن السوق والرأسمالية الكاملة القائمة على عدم التدخل يجب أن تهيمن على حياتنا الاقتصادية بأكملها. وأن السوق هو الحكم النهائي لكل ما هو مهم. ويصادف أن يتردد صدى ذلك مع فرع معين من فلسفة اليمين، خاصة في السياسة الأمريكية.»
بعدها يُعلق روبينسون بالقول: «العملة المشفرة هي خصخصة الأموال. ولذا فهو يميني على النحو نفسه الذي ترتبط به خصخصة الطرق والمدارس والشرطة بطبيعتها بفلسفة اليمين. ما يعني نقل هذه القطاعات من سلطة مؤسسات عامة خاضعة للمساءلة ديمقراطيًا إلى أيدي القلة الثرية المسيطرة على الأسواق. هناك شيء ‹يميني› بخصوص نقل شيء -أيا كان- من القطاع العام إلى القطاع الخاص.»
خامسا: عن الضحايا
العملات الرقمية كما هي اليوم إما أن تكون (i) احتيالا، ليس بمعنى أن ثمة من قام بابتداع هذه الحيلة، ولكنها لعبة تورط فيها عدد كبير من الناس هم محتالون وضحايا في الوقت نفسه. هذه الورطة نابعة من سوء فهم بالدرجة الأولى لإمكانيات وغرض هذه التكنولوجيا، تُعاضدها رغبة الكسب السريع في ظل نظام يتسم بعدم المساواة، ولا يبدو من حل في الأفق لسد الفجوة بين فقرائه وأثريائه، إلا أذا أخذ الفقراء على عاتقهم ذلك عبر الكسب السريع. هذا الترند يتماشى تماما مع سياسة ما بعد الحقيقة، وفقدان الثقة بالخبراء. أعني أن كتاب ديهل وزملائه قد نُشر قبل انهيار FTX بأشهر. إلا أنه بالمثل زخرت المواقع والمجلات بالمقالات التي تُبجل هذه التكنولوجيا. أقول إن العملات الرقمية إما أن تكون احتيالا أو أنها (ii) أداة لا نعرف - حتى بعد مرور أكثر من عشرة أعوام على ابتكارها- ما هي وظيفتها.