الصور الذهنية .. على أهميتها
يعد بناء الصور الذهنية الإيجابية من أصعب البناءات المعرفية؛ مع أنها بناءات ذاتية أغلبها غير مفروضة، لأنها تتسلل إلى الذات عبر قناعات الإنسان التي يبنيها من خلال مواقفه اليومية، ومجموعة الأحداث التي يتعرض لها، والتي يسمح لها بالدخول إلى مكتسبه الشخصي البحت، وبالتالي فمتى استوعب أحدنا عبر مكنونه الخاص من مجمل هذه الصور التي يتعرض لها في اليوم والليلة؛ كان ذلك بمثابة الوثيقة المبصومة على ذاكرته، ومعنى ذلك يبقى من شبه المستحيل التخلي عنها، أو إلغائها على أكبر تقدير لمجرد موقف خاطف، أو صدام مؤقت، ومن هنا تتجذر الصور الذهنية في الذاكرة، فتجد لها مكانها الآمن، وتجد لها النصرة الدائمة، وتجد لها الحماية المستمرة، ألم يقل: «العلم في الصغر كالنقش على الحجر»؟ والعلم هنا ليس معناه القراءة والكتابة؛ كما يعتقد؛ وإنما تتسع مساحة المعرفة في شرحه، فكل مكتسب ذهني هو علم في ذاته ومعناه، وإن اختلفت التعريفات في مفهوم العلم، والمتعلم، ولذلك فأي اقتراب من تشويه الصور الذهنية لأبناء المجتمع، ومحاولة استبدالها بصور ذهنية مسيئة (سلبية المقصد والتأثير) تواجه بمصدّات كثيرة، وتحشد لها القوى اللازمة لردع من يحاول ذلك، فالمسألة تتعلق بهوية شعب بأكمله، وليس بفرد فقط، يقبلها أو يرفضها.
ما يدعو إلى الحديث في أمر الصور الذهنية في هذه المناقشة هو مجموعة التحديات التي تحيط بالفرد، وازدياد تنوعها، وتكاثرها سواء بصورة متعمدة؛ وهي أكثرها؛ أو في سياق الحياة الطبيعية في مفهوم ( التأثير والتأثر) الذي تعيشه الشعوب؛ وخاصة؛ في المجتمعات المحافظة، التي لا تزال ترى أن في استقرار حياتها هو عدم النبش في تموضعات الصور الذهنية لدى أفرادها الذين انبنت في ذاكرتهم الصور الذهنية السليمة الأقرب إلى الفطرة؛ إلى حد ما؛ وهي الصور المعبرة عن أخلاقهم، وعن دينهم القويم، وعن عاداتهم التي لا تزال تحتفظ بمسافة معقولة عن التبدل، والانخراط في متاهات العادات والقيم الحديثة غير السوية، والتي يروج لها اليوم أكثر من أي وقت مضى، وخاصة تلك الذاهبة إلى المصادمة مع الفطرة السليمة، والمقوضة لأمن المجتمع، والذاهبة إلى تفكيك مجمل اللحم الاجتماعية التي راهنت عليها المجتمعات المحافظة ردحا من الزمن، لبقاء مجتمعات طاهرة، سليمة، نقية، إلى حد كبير، ومعنى هذا أن هذا النوع من المجتمعات لا يكيدها كثيرا أن تدخل في معارك «حياة أو موت» في سبيل أن تبقى معززة مصانة، بما تدخره من إرث حضاري، ومن مكتسب اجتماعي، لا يزال يحافظ على هوياتها وانتماءاتها، ويجل قدرها الإنساني، فهي إلى الإنسانية أقرب منها إلى الغريزة الحيوانية.
لذلك لا يستغرب؛ إطلاقا؛ مجموعة الإجراءات التي تتخذها الجهات المعنية، دعما وتأييدا للتوجه الاجتماعي نحو المحافظة على صوره الذهنية المتوارثة، وحرص هذه الجهات على أن تقف موقف الرافض لأي اختراق من شأنه أن يقزم من مكانة هذه الصور، أو يوجد فيها منفذا نحو الإساءة، ومع أن مسألة الإساءات للصور الذهنية في المجتمعات مرشحة للزيادة في ظل الفوضى العارمة لتماهي القيم الإنسانية بفعل النداءات الشاذة التي ينعق بها من الجهات الأربع للكرة الأرضية، ومعنى ذلك على الجهات المعنية أن تشحذ هممها، وتنشر أذرعها الصادة لهذه النداءات، وتقوي مناعات الشعوب التي تشرف على المحافظة على قيمها وعاداتها وتقاليدها، وإلا تماهت المجتمعات نفسها، ويصبح التفريق بين الشعوب المحافظة على قيمها، وبين الشعوب الانفتاحية شبه معدوم، والخطورة أكبر عندما تنشأ مجتمعات أخرى بديلة «مشوهة» نوع من الهجين لا هي إلى المجتمعات المحافظة أقرب، ولا هي إلى المجتمعات المنفتحة أقرب، وفي ذلك تغريب مطلق لما هو معلوم بالضرورة لعوامل التفريق بين المجتمعات في اختلافها، وفي تقاربها على حد سواء، وإن كانت المؤشرات تشير إلى قدوم تحولات غير مقبولة حتى هذه اللحظة، لأنها تجاوزت الحد المعقول للقبول، بما يصاحب ذلك من هبة دولية «رسمية» تجمع على تعزيزها بما يسمى بـ «الأمم المتحدة» وهي الأمم المارقة عن قوانين الفطرة.
يحضر الرأي العام اليوم؛ أكثر من أي وقت مضى؛ كأهم مدافع عن تماهي الهُويات، وتصدع القيم والتقاليد الإيجابية الداعمة لمسيرة المجتمعات الإنسانية، فـ «الرأي العام» أن ينطلق، فهو ينطلق من مسؤولية اجتماعية خالصة، يرى فيها الواجب المطلق، ويرى في التهاون عنها؛ ضياع المجتمع برمته، ولأنه رأي عام، فهو أقرب إلى الصدق منه إلى المناورة التي تستخدمها النظم السياسية، أو الدعايات السياسية، ولذلك ينظر إلى الـ «الرأي العام» على أنه المشروع الحقوقي الكبير للدفاع عن مقدرات المجتمع، ومكتسباته من القيم والأعراف، وهذا ما يشيئ إلى أن الإنسانية لا تزال تعيش مرحلتها الخصبة، وبمستوى عال من الالتحام، والتآزر، والتناصر، وهذا من شأنه أن يصعّد من حدة المواجهة والتدافع بين الطرفين، ويطيل عمر الحرب، ومعنى هذا أيضا أن الهزيمة المطلقة غير واردة وفق هذا الواقع الذي يعيشه الجميع، ولذلك ينظر إلى الأصوات التي تنادي بالخروج عن مجموعة التحفظات التي تبديها بعض المجموعات الإنسانية على كثير من الممارسات غير سوية، أصوات نشاز لا قيمة لها، وسيظل الرهان عاليا في انتصار الحق على الباطل، وسمو الفطر على تمييع الذوات التي تستسلم بسهولة للمصلحة الآنية؛ غير المحسوبة النتائج.
والمسألة في شموليتها لا تشكل خطورة على الفرد في المجتمع، بقدر ما تؤثر على المصالح العامة للدول، ومن هنا تأتي ضرورة الالتحام الشامل بين جهد المؤسسة الرسمية، وجهد الفرد «الرأي العام» فكلاهما يسيران نحو تحقيق غاية كبرى واحدة، مآلها تنقية المجتمع من الشوائب الضارة، وغرس قيم ثابتة، معززة بالقناعات، وبالرضا، وبأهمية الوطن في مكونه الجغرافي والإنساني على حد سواء، وبالتالي فلا تقبل إطلاقا أية تنازلات من شأنها أن تشوه هذه الصورة، أو تقترب منها، والأصوات النشاز التي تظهر على صفحة المجتمع بين كل فترة وأخرى، من خلال استخدام أساليب استعلائية تفصح عن السفه وعدم التقدير لقيم المجتمع، لا بد من إسكاتها، ولا بد أن تواجه بكثير من الحزم والردع، وإماتتها في مهدها قبل أن تستفحل وتمد أذرع مآسيها على امتداد الأفق الإنساني، مع ضرورة الانتصار لصوت الرأي العام، لأنه الصوت الأمين الصادق لأمن المجتمع، ويقينا؛ لن يخون الرأي العام أمانته، مهما كانت التحديات، وهذا ما يجلب الآمان النفسي، بأن الشعوب لا تزال حية مهما لامستها أيادي التغريب في كثير من محطات حياتها اليومية.
تتيح اليوم وسائل التواصل الاجتماعي الترويج للإساءة إلى الصور الذهنية للمجتمعات، وذلك من خلال ما تبثه من ممارسات دخيلة على المجتمع، من خلال «دس السم في العسل» حيث تظهرها كجوانب ترفيهية، أو أعمال درامية، واليوم تنتشر أكثر حتى عبر الدعاية الإعلانية، حيث يتم ربطها بطرق فنية لا يمكن اكتشافها من اللحظة الأولى إلا بعد التدقيق، أو الانتباه المركز، يحدث هذا لأنه ليس من اليسير إطلاقا إخضاع هذه الوسائل لمعايير إعلامية راشدة وحكيمة وعاقلة؛ حيث لا رقابة إدارية عليها؛ وتبقى رقابة الضمير فقط؛ وماذا عساه أن يفعل هذا الضمير، حيث نشأته المشوهة؛ وذلك للانتشار السريع للمستخدمين، حيث أصبح كل فرد إعلاميا، يبث ما يريد وما يحلو له من صور، ومواد مكتوبة دون استحضار خطورتها على المجتمع، والتركيز أكثر على الصورة لسرعة تأثيرها على الذاكرة، والتركيز أكثر على الفئات الصغيرة «الأطفال» والمراهقين، لعدم قدرتهم على تمييز الصالح من الطالح، ولسرعتهم وتلهفهم على ما هو جديد، ولما هو سهل، ولما هو ممتع، ولرغبة هذه الفئة الجامحة في تجربة كل جديد، والدخول في ممارسة المغامرات.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني