الصراع الأعمق فيما بعد حرب إسرائيل وحماس
ترجمة: أحمد شافعي -
تحت سطح الحرب الجارية بين إسرائيل وحماس، يستعر صراع آخر. في هذا الصدام، نجد أن خطوط المعركة مرسومة في مكان مختلف للغاية، والتحالفات والعداوات تتخذ أشكالا غير متوقعة. ولقد نلنا لمحة من هذا الصراع القادم خلال الأسبوع الحالي، وحينما يهدأ العنف القائم، سوف نراه على نحو أوضح.
في الوقت الراهن، تبدو تلك اللحظة ـ التي يطلق عليها الدبلوماسيون وغيرهم «اليوم التالي» ـ بعيدة للغاية، رغم أن زيارة إلى إسرائيل قام بها يوم الجمعة وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن تشير إلى أن واشنطن تنظر بالفعل في ساعتها: دليل على أنه حتى بعض أقوى حلفاء إسرائيل يشعرون بالقلق من تصاعد الخسائر المتزايدة في الأرواح في غزة. يحث بلينكن إسرائيل على بذل المزيد من أجل حماية المدنيين، وآخرون يطالبون بوقف إطلاق النار، أو بهدأة على الأقل. يتعرض بنيامين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل لضغط. لكنه تلقى هذا الأسبوع ـ وهو يسعى إلى عرض قضية إسرائيل ـ مساعدة من جانب لم يكن متوقعا.
قال مسؤول حماس رفيع المستوى غازي حمد للتلفزيون اللبناني: إن منظمته عازمة على تكرار ما حدث يوم السابع من أكتوبر التي قتل فيها رجال حماس نحو ألف وأربعمائة إسرائيلي. وعد حمد بأن السابع من أكتوبر كان «المرة الأولى فقط، وستكون بعدها ثانية وثالثة ورابعة». وسئل إن كانت حماس عازمة على محو إسرائيل فقال: «نعم، بالطبع».
كانت إجابة واضحة تمنتها إسرائيل وهي تسعى إلى شرح أسباب عجزها عن وضع السلاح قبل أن تعجز حماس عن تكرار ما فعلته قبل أربعة أسابيع، مستندة إلى أن إسرائيل بحاجة إلى مساحة للمناورة تماثل ما منحته الولايات المتحدة لنفسها (وكذلك المملكة المتحدة) حينما شرعت في تدمير داعش.
والنتيجة هجوم إسرائيلي أجهز بالفعل على حياة قرابة تسعة آلاف نفس في غزة، وحطم أسرا كاملة بضربة واحدة. ومع ذلك ففي تفسير هذا الرقم المرتفع المزعج قدمت حماس أيضا بعض المساعدة. فقد سأل محاور تليفزيوني أحد مسؤولي حماس إن كانت شبكة أنفاق الجماعة الممتدة لأكثر من ثلاثمائة ميل يمكن أن تستعمل في إيواء المدنيين فنفى مسؤول حماس ذلك وقال: إن «الأنفاق لنا [أي لحماس]، والمواطنون في قطاع غزة يقعون تحت مسؤولية الأمم المتحدة».
ربما شعر رجال حماس أن عليهم دينا لنتانياهو يجب أن يردوه. فنتانياهو في النهاية فعل لهم أكثر من معروف، إذ اشتهر قوله في اجتماع لحزبه الليكود سنة 2019 كلمات ـ لم يجر إنكارها بعد ذلك قط ـ جاء فيها أن «أي شخص يريد إحباط قيام دولة فلسطينية يجب أن يدعم تعزيز حماس وتحويل الأموال إلى حماس... هذا جزء من استراتيجيتنا».
كل هذا يعود إلى الديناميكية السامة المهملة في كثير من الحالات والحاضرة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني منذ عقود، التي سوف تكتسب الأهمية مرة أخرى حينما ينتهي الفصل الراهن من الأحداث. فحينئذ سوف نرى التنافس الأهم وهو المعركة بين المتشددين والمعتدلين، أو لمزيد من التحديد، بين الكليين والجزئيين [maximalists v partitionists] أي المصرين على أن تكون لهم الأرض كلها في مقابل المستعدين لاقتسامها. وإليكم الطريقة التي سيجري عليها الأمر.
في الوقت الراهن، لا يبدو أن هناك خطة إسرائيلية، في ما يتجاوز الهدف المباشر المتمثل في تدمير حماس بوصفها قوة عسكرية. وسوف يأتي هذا على حماس بوصفها قوة حاكمة أيضا، ولن يقتصر الأمر على ترك غزة ركاما وخرابا، بل سيؤدي أيضا إلى فراغ. ويجري حديث في بعض الأوساط عن إنشاء «وصاية جديدة» بموجبها تتدخل دول أخرى لفرض النظام قبل التوصل إلى اتفاق، ويشير أنصار هذا الرأي إلى كوسوفو وتيمور الشرقية بوصفهما سوابق لهذا.
واضح أنه لا يمكن أن توكل هذه المهمة إلى قوى غربية، وإنما إلى ائتلاف محتمل من دول عربية وأموال خليجية. قد ترفض هذه الدول على أي حال، ولكن من المؤكد أنها سوف ترفض ما لم تكن الوصاية خطوة مرحلية نحو حكم ذاتي فلسطيني. في شهادة أمام الكونجرس هذا الأسبوع، ألمح بلينكن إلماحا قويا إلى أنه بخروج حماس من الصورة ستكون الجهة المناسبة للمهمة هي السلطة الفلسطينية القائمة حاليا في الضفة الغربية والخاضعة لسيطرة فتح منافسة حماس، وفتح من الجزئيين لا من الكليين.
ما من سبيل لأن تؤيد السلطة هذه الخطة ما لم تكن انتقالية في الطريق إلى دولة فلسطينية حقيقية. ولكن من شأن ذلك أن يستوجب تحولا استراتيجيا راديكاليا من جانب إسرائيل، يبدأ بتغيير الحكومة ورئيس الوزراء.
والأمر الأخير يزداد منطقية. فقد بات نتانياهو موضع بغض متزايد في إسرائيل لرفضه حضور أي جنازة لموتى السابع من أكتوبر أو تحمل مسؤولية الإخفاقات الأمنية في ذلك اليوم. ومثل هذا يسري على تغريدته ـ التي عاد فحذفها ـ وسعى فيها إلى إلقاء اللوم على مستشاريه العسكريين، ولعل ذلك تم بتحريض من زوجته وابنه يائير، الذي بقي في فلوريدا بدلا من العودة إلى إسرائيل للانضمام إلى زملائه من جنود الاحتياط.
ولكن الإطاحة بنتانياهو ستكون أقل الأمور. فلكي تسعى إسرائيل إلى حل الدولتين، الذي قضى نتانياهو قرابة ثلاثة عقود في العمل على جعله مستحيلا، سوف يستوجب ذلك إنهاء المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية والتنازل عن أراض. وسيكون هذا شجارا بين من يؤمنون بوجوب تقسيم الأرض بين شعبين ومن يريدون الأرض كلها.
على نحو ما، سوف يصفو الأمر إلى استفتاء على معنى السابع من أكتوبر، بل ومعنى العقد ونصف العقد الماضيين في حقيقة الأمر. سوف يقول الجزئيون إن السابع من أكتوبر يثبت أن نهج السنوات الأخيرة ـ أي ترك حماس في مكانها والسماح لها بإقامة ترسانة مخيفة وإضعاف المعتدلين في السلطة بمنع الرجوع إلى المفاوضات وتوسيع المستوطنات وترسيخ احتلال الضفة الغربية ـ قد فشل فشلا واضحا في حماية الإسرائيليين. وسوف يقول الكليون إن الانسحاب الإسرائيلي من غزة سنة 2005 ـ بإخراج كل جندي ومستوطن منها ـ هو الذي سمح بازدهار حماس وأدى إلى المجزرة الجماعية.
في هذا النزاع، سوف يجري تصوير المعتدلين باعتبارهم سذجا إلى حد قاتل. ففي نهاية المطاف، كان دعاة السلام الكيبوتزيون والمؤمنون الراسخون بالحوار العربي اليهودي هم النسبة الطاغية بين قتلى وأسرى الشهر الماضي. وفي هذه المهمة، أي مهمة تصوير المعتدلين بصورة الحمقى، سوف تجد إسرائيل حليفا غير متوقع، وهو الحليف نفسه الذي كان دائما ما يجدونه، أي المتطرفين في الجانب الآخر.
إسرائيل لديها مخربوها، والكليون الخاصون بها. والعديد منهم جزء من حكومة نتانياهو اليمينية المتطرفة، فهم وزراء يكتبون خرافاتهم الخاصة بتسوية غزة بالأرض على مواقع التواصل الاجتماعي، من أمثال بتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن جفير، فهم رجال واضحو العزم على تعميق العنف الراهن بضمان نشره في الضفة الغربية بل وداخل إسرائيل نفسها.
هذه إذن هي المعركة القادمة. والحل الوحيد بعيد المدى هو دولتان جنبا إلى جنب. والحل الوحيد قصير المدى لغزة هو خطة واعدة بدولة فلسطينية. وكل خطوة على الطريق، ستصادف الرجال في الجانبين، الراغبين في الأرض كلها لأنفسهم، حاضرين لتعطيل التقدم، ومع أنهم أعداء ألداء لبعضهم بعضا فسوف يكون بعضهم عونا لبعض في هذه المهمة المشتركة. فهي رقصة موت تلك التي يشتركون في أدائها. والمؤمنون من الجانبين بالتسوية لن يتمكنوا من المحاربة وحدهم. سيكونون بحاجة إلى حلفاء، منهم الذين يخرجون للتظاهر في الشوارع وينعتون أنفسهم بالتقدميين، وسيكونون بحاجة إلى مساعدة من العالم حينما يقرر أخيرا أنه اكتفى بما شاهد من دماء مراقة ولا يحتمل أن يرى المزيد.
جوناثان فريدلاند كاتب عمود في صحيفة الغارديان ومقدم برنامج على إذاعة «بي بي سي».
عن صحيفة الجارديان البريطانية