الشركات الناشئة ودورها في التنمية والتغيير
توفر الشبكة العالمية للإنترنت كما هائلا من المعلومات المفيدة، لا سيما تلك التي تنشرها المراكز والمنظمات المتخصصة من خلال مواقعها على الشبكة. وهذه المعلومات متاحة للمهتمين والباحثين بيسر، بل وعلى الأكُف وأطراف الأصابع من خلال الهواتف المحمولة. ومن المواقع الزاخرة بالمعلومات الاقتصادية المفيدة وبالموضوعات المتعلقة بحماية البيئة واستدامتها، موقع المنتدى الاقتصادي العالمي WEF، الذي يعرض معلومات غزيرة ومتجددة. في الأيام الماضية نشر المنتدى على حسابه في منصة LinkedIn ملفا يحتوي على عدة مقالات كتبها مؤسسون وكبار تنفيذيين في بعض الشركات العالمية الناشئة startups. الملف المنشور كان بعنوان "كيف تقود الشركات الناشئة التعافي الاقتصادي وهي تنمو بمسؤولية"، HOW STARTUPS DRIVE ECONOMIC RECOVERY WHIL GROWING RESPONSIBLY . وقبل عرض بعض مما جاء في الملف، من المفيد توضيح المقصود بالشركات الناشئة، وسوف نستخدم في ذلك التعريف المنشور على إحدى المنصات المتخصصة في موضوعات الاقتصاد والاستثمار. تعرّف منصة investopedia في موقعها على الشبكة العالمية، الشركة الناشئة بأنها الشركة التي يؤسسها فرد أو أكثر بغرض انتاج سلعة أو تقديم خدمة يعتقد أنه يوجد طلب عليها أو مستخدمون لها. أو باختصار، هي الشركة أو المؤسسة التي ما تزال في مراحلها الأولى. وغالبا ما يقوم مؤسس أو مؤسسو الشركات الناشئة بتمويل تكاليف إنشائها وإدارتها من أموالهم الخاصة أو من خلال استقطاب رؤوس أموال لها من أصدقائهم أو إدخال صناديق رأس المال الجريء venture capital شركاء فيها، أو غير ذلك من أساليب وأدوات التمويل بما فيها الاقتراض من البنوك ومؤسسات التمويل. وتتسم الشركات الناشئة بأنها معرضة إلى درجة عالية من المخاطرة، بل إن كثيرا منها يفشل ويخرج من السوق بعد فترة قصيرة من دخوله. يلخص هذا المقال بعضا مما جاء في الملف التي نشره منتدى الاقتصاد العالمي، مع إبداء بعض الملاحظات أو التعليقات على ما جاء فيه، كلما كان ذلك ممكنا، وذلك من أجل التعريف والتوعية بأهمية الشركات الناشئة ودورها في الاقتصاد والتنمية الشاملة.
يقول محرر الملف، جرمي يورغنز Jeremy Urgens إن الشركات الناشئة تقوم بدور المحفز للنمو والتعافي الاقتصادي على الصعيدين المحلي والعالمي، وهي تمارس أعمالها وتُوسعها من خلال ما يسمى بالنمو المسؤول، كما أن لها أيضا دور مهم في التغير الاجتماعي. ويبدو من السياق أن المقصود بالنمو المسؤول هو ذلك النمو الذي يراعي متطلبات البيئة، بما في ذلك الحد من استهلاك الطاقة والتغير المناخي أو إنتاج سلع وخدمات تساعد على الحد من التلوث وتقلل من الانبعاثات المضرة بالبيئة. وعند قراءتي لهذا التوصيف ظننت استحالة التزام كثير من الشركات الناشئة بمتطلبات الحد من التلوث، لاسيما منها الشركات العاملة في بعض القطاعات، مثل قطاع الإنشاءات وقطاع التعدين. لكني وجدت لاحقا في أحد المقالات التي يضمها الملف أن إحدى الشركات الناشئة قد أوجدت حلا لمثل هذه المشاكل. وفي سياق الحديث عن حجم ودور الشركات الناشئة في الاقتصاد العالمي ذكر الملف أن إجمالي القيمة التي خلقتها هذه الشركات في الاقتصاد العالمي خلال عام 2021 قد تجاوزت الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة السبع G7، وأن حجم تمويلها قد بلغ حوالي 600 مليار دولار.
في أحد المقالات التي يضمها الملف كتب أحد المؤسسين وهو كذلك الرئيس التنفيذي لشركة ناشئة تعمل في حقل الرعاية الطبية، إن من شروط نجاح الشركة الناشئة إيجاد حلول لاحتياجات لم يتم تلبيتها أو التعامل معها من قبل. وأضاف إنه إلى جانب دورها في حفز التعافي الاقتصادي، فإن الشركات الناشئة تعمل على تغيير الأنماط أو الثقافة السائدة عن حاجات أو سلع أو خدمات معينة، وذلك لإقناع الذين تستهدفهم بتبني ثقافتها وأفكارها، أو اقتناء واستخدام سلعها وخدماتها. وكتب الرئيس التنفيذي في شركة ناشئة أخرى تنتج الطائرات المسيرة التي تستخدم في مجال التدبير (الخدمات اللوجستية) في أفريقيا. وقال إن شركته تعاونت مع منظمة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة (يونيسيف) وتم تدريب أعداد كبيرة من الشبان الأفارقة لتجميع واستخدام الطائرة المسيرة في مجال نقل وتوصيل الطرود والرسائل البريدية في المدن والقرى والأرياف. وقد تمكن أولئك الشبان من إيجاد فرص عمل ومصادر رزق لهم ولعائلاتهم. وفي مقال آخر في الملف كتب أحدهم، إن الشركات الناشئة في مجال التقانة لا تحفز الاقتصاد على النمو وحسب، وإنما هي كذلك أداة للتنمية وآلة للتغير الاجتماعي، لأن هذه الشركات تحل مشاكل في قطاعات وصناعات أخرى لم يسبق إيجاد حلول لها. وأضاف إنها بذلك الدور تدفع الشركات الناشئة بالمجتمع إلى الأمام، من خلال إيجاد فرص العمل وكذلك من خلال توسيع الإنتاج واستقطاب الاستثمارات الأجنبية. وفي الملف أيضا مقال كتبه عيسى الصالح، وهو الرئيس التنفيذي لشركة ناشئة تعمل في مجال نقل المواد داخل المدن. وقد ذكر الصالح في مقاله إنه في كثير من الأحيان تصعب المزاوجة بين النمو الاقتصادي والاستدامة. وقال إن مهمة شركته هي جعل المدينة أكثر أمانا وأكثر نظافة وأكثر استدامة. وأضاف إن مؤسسي شركته جعلوا موضوع الاستدامة ثقافة مغروسة وحاضرة في كل عمليات الشركة وأنشطتها. وأردف قائلا إن ذلك التوجه والالتزام خلق فرصة لإيجاد حلول من أجل الاستدامة، فقامت الشركة ببناء حزام ناقل يعمل بالكهرباء لنقل مواد البناء في المدينة. ونتيجة لذلك تراجع استخدام سيارات النقل الكبيرة، الأمر الذي أدى إلى تقليل الازدحام المروري في المدينة وإلى انخفاض مستوى التلوث بشكل عام.
وبالإضافة إلى ما ذكرناه أعلاه من مقالات توجد في الملف المذكور مقالات أخرى تتحدث عن تجارب وأدوار هامة للشركات الناشئة، ولكن هذا المقال لا يتسع لعرضها جميعا.
نستخلص مما جاء في الملف الذي نشره المنتدى الاقتصادي العالمي أن للشركة الناشئة أهمية كبيرة على مستوى الاقتصاد المحلي والعالمي، ولها كذلك دور مهم في التغير الاجتماعي، لاسيما من حيث توفير فرص العمل وتلبية حاجات الناس وتحسين مستوى معيشتهم. لذلك فإنه من المفيد توفير بيانات عن هذا النوع من الشركات في عمان، بحيث يتم تضمين الإحصاءات الوطنية بيانات مفصلة عنها، سواء من حيث حجم أعمالها ومقدار مساهمتها في الاقتصاد، أو من حيث نجاحها أو فشلها وخروجها من السوق. إن وجود ونشر مثل تلك البيانات مفيد للمخططين وواضعي السياسات والخطط التنموية من جهة، وللمستثمرين ورواد الأعمال من جهة أخرى. ومن المعلوم أنه ظهرت في عمان منذ سنوات عديدة شركات عملت في قطاعات مقاولات البناء وتجارة التجزئة والعقار، وكانت لبعضها تجارب ناجحة تستحق أن تدرس لمعرفة أثرها على الاقتصاد والمجتمع، وكذلك معرفة أسباب اختفائها من السوق، وما إذا كانت معايير الشركات الناشئة تنطبق على تلك الشركات. أما في السنوات الأخيرة فقد ظهرت شركات تستخدم التقانة الحديثة في عملياتها وأنشطتها في عدد من الخدمات، مثل خدمة نقل الركاب وخدمات توصيل الطرود والأطعمة وفي التسويق. ويبدو أن بعض تلك الشركات قد نجحت في مد أنشطتها وعملياتها إلى خارج عمان. وفي إطار الجهود الرامية إلى تنويع الاقتصاد فإن على الجهات المعنية في الحكومة والقطاع الخاص الاستفادة من تجارب الدول الأخرى وتمكين الأعداد المتزايدة من خريجي الجامعات من خلال تقديم حوافز مالية وأطر تشريعية من أجل جعل عمان مركزا إقليميا لتأسيس وإطلاق الشركات الناشئة في العالم العربي وبلدان حوض المحيط الهندي، كما هو حاصل في بلدان أخرى في العالم.
• د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية