الشر المطلق
عندما أنظر إلى تلك المجازر والدمار والإبادة الجماعية المنظمة التي ترتكبها الآلة الصهيونية وذلك الشر المتصاعد الذي لا حدود له ولا رادع لتوحشه، شيء من اللامعقول لا في حدوده ولا في فهمه، أتذكر مصطلح (الشر المطلق) الذي حفره الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن.
فقد سبق وأن نبّه الفيلسوف في عام 2018 بأن العالم مقبل على ظلم عظيم عندما ذكر أن «ظلمًا عظيمًا بدأت ملامحه تتراءى في الأفق وتمييزا لمآس غير مسبوقة تنتظر الأمة والعالم». تلك النبوءة والتنبيه كانت إرهاصاتها بادية للعيان، وقد تكون في عالمنا العربي حالة ملازمة ووجودية، فقد تجلت بلا شك في الإبادة الجماعية التي ترتكبها قوات الاحتلال في غزة على أثر طوفان الأقصى الذي نفذته المقاومة الفلسطينية (حماس) ضد الاحتلال الغاشم.
كل شرور الكون تجلت وتمثلت في حروب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل فبالإضافة إلى الشر المطلق هناك أيضًا الشر المتجذر عند الفيلسوف الألماني كانط وتفاهة الشر أو الشر المبتذل الذي صاغته الفيلسوفة الألمانية حنا آرندت.
لكن يبقى الشر المطلق هو الوصف الدقيق والمثالي لما تتعرض له غزة والفلسطينيون بشكل عام. نحت الفيلسوف طه عبدالرحمن مصطلح (الشر المطلق) في كتابه (ثغور المرابطة) الصادر 2018م بصدد حديثه عما يتعرض له الفلسطينيون من أذى ودمار ومن هول الأفعال التي تُرتكب، فقد ذكر «أن هذا العالم فقَدَ خُلُقَ الحياء، بحيث بات كل قويٍّ فيه يصنع ما يشاء، لا غرابة أن يَلْقى الإنسانُ ألوانا شتى من الأذى؛ غير أن ما يلقاه (الإنسان الفلسطيني) من أذى الأباعد والأقارب جميعا ليس له نظير ولا تقدير، ناهيك عما يقاسيه من الكيان الإسرائيلي الذي أضحى إيذاؤه بلا وصْف، وحتى بلا اسم، كأنه الشر المطلق؛ إذ إن أشكال هذا الإيذاء أكثر من أن نحصيها واحدا واحدا، فلا نكاد نحصي ما وُجِد منها في الآن، حتى تُفاجئنا أشكال مِن بَعْدها أشكال أخرى لم تكن في الحسبان».
وبحسب طه عبدالرحمن يكون مفهوم الشر المطلق هو الإيذاء في أقصاه وإطلاقه بحيث يتحدى العقل البشري المجرد في فهمه وإدراكه، والشاهد على ذلك حسب كلامه هي الصفات التي تطلق على هذا الشر فهو «لا يعقل»، «لا يتصور»، «لا يتوهم»، «لا يوصف»، «لا يسمى»، «بلا اسم». وهو بلا شك ليس تأزم القيم الإنسانية ولا قلب القيم إلى أضدادها وإنما هو قتل القيم ومحوها بما يفقد الإنسان القدرة على التمييز بين الخير والشر وبين الحق والباطل.
وأمام هذه الأحداث المهولة والجرائم المستمرة والإبادة الجماعية التي تمارسها الآلة الصهيونية ممثلة بالكيان الإسرائيلي، ما تفعله وما تقوم به تلك الآلة الجهنمية شيء يستعصي على التخيل ويفوق العقل البشري في تصوره، وما يزيد تلك الحالة من التعجب والاندهاش واللامعقولية هو أن تلك الفضائح تحدث أمام بصر وعيون العالم وبشكل مباشر دون أن يتحرك ساكن فيهم لوقف تلك المجازر التي يرتكبها نتانياهو وزمرته بدعم من الغرب المتصهين وبصمت مخزٍ من الأنظمة العربية والإسلامية. يوما بعد يوم والعنف والمجازر تتناسل والشر يتوالد شرورا والإرهاب لا يخلّف إلا إرهابا وعنفا، يحدث ذلك من أناس فقدوا إنسانيتهم وأخلاقهم وكل ما بقى لديهم من ذرة تعني الإنسانية وتحولوا إلى وحوش ضارية في صورة بشر لا فرق بينهم وبين تلك الحيوانات التي تفتك وتمزق ضحيتها إربًا دون وعي مدفوعة بلذة الانتقام أو الجوع أو التلذذ بالقتل والسيادة.
عندما يتحول القتل الذي ترتكبه إسرائيل إلى أفعال تدفع فاعلها إلى ارتكاب أعظم الإثم والعدوان والجرائم التي لا مثيل لها والتي لا يستطيع العقل البشري تصورها وتوقعها وإدراكها، فصور الإبادة والقتل الجماعي للأطفال والأبرياء والتدمير الممنهج الذي تمارسه الصهيونية هو الشر المطلق والأذى في أبهى تجلياته الذي هو بحسب طه عبدالرحمن أعمال مؤذية إيذاء أبرز صفاته ثلاث هي أن هذا الإيذاء يعطل العقل والإرادة فلا العقل يقدر على تصوره أو تصديقه ويعطل الإرادة فلا تقدر على تقصده أو تخيره، ثانيا، أن هذا الإيذاء لا ينفد ولا ينحد، وثالثا أن قدرة هذا الإيذاء على الظهور تزدوج بقدرته على الخفاء، بمعنى أن الأعمال الشريرة التي يمارسها ويقدم عليها الشرير في الظاهر ليست أقل خطورة مما يكون في الخفاء فهو أشد وأنكى. فها قد ظهر الحدث الأعظم الذي تضج به الساعة وهو الإبادة الجماعية الذي يمثل منتهى الشر المطلق بحسب الفيلسوف. إن الذين يمارسون الشر المطلق لا يمكن أن نحصرهم في قادة العدو الصهيوني فقط وإنما هناك الكثير ممن هم دأبوا على ممارسة هذا الشر ويرفعون من وتيرته وعنفه وتوحشه ويشترك في ذلك قادة سياسيون ومفكرون واقتصاديون منظرون الذين لا ينفكون عن بث أفكارهم العدوانية، وقد يأخذ الشر المطلق أشكالا وأنواعا مختلفة من الإيذاء على الضحية كالدكتاتورية والتسلط والظلم وانتهاك حقوق الإنسان هي في الحقيقة شكل شر مطلق، قد لا يقتصر على بقعة معينة من العالم عندما تمارسه حفنة من المجرمين الذين لا يردعهم شيء ولا يحد من بطشهم أحد، فكثير من الضحايا الذين يمارس بحقهم أقصى أنواع الإيذاء والشرور لا يكون لهم من منصف أو مدافع ويستمر أذاهم إلى ما لا نهاية.
العالم وقد تحول أغلبه إلى ممارسين لهذا الشر المطلق فمن ذا الذي سوف يتصدى لهذا الشر؟ العالم فريق قوي يمارس الشر المطلق بكل صوره دون مراعاة لأي قيمة إنسانية أو أخلاقية وعالم آخر ضعيف مبتذل مسحوق ومهان لا يستطيع رد ذلك الشر الواقع عليه وبالتالي لا حدود للشر المطلق ولا نهاية له إلا إذا دخلنا في أمور غيبية وقوى خارجية تستطيع رد هذا الشر الواقع على الإنسانية جمعا.
مما لا شك فيه أن عالمنا العربي واقع تحت إرهاب الشر المطلق الذي يُمارَس عليه من جهات متعددة أن التصدي ومواجهة ذلك الشر المطلق تتطلب مضاعفة الجهود والإخلاص والنوايا الحسنة لدى القائمين وتلك مسؤولية مضاعفة يشترك فيها الجميع: حكومات ومؤسسات دينية ومثقفون ورجال فكر وأفراد كل يقوم بدوره، لكن ذلك لن يكتمل إلا إذا خلصت النيات ووجدت الرغبة لدى السلطة السياسية. إن التصدي لهذا الشر المطلق بحسب طه عبدالرحمن هو «وجوب عين» وتحدث عن مسؤوليتين عظيمتين عن الإنسانية جمعاء والقيم جمعاء.
بدر الشيدي قاص وكاتب عماني