الشخصنة.. مضامين محملة بالتعصب والنرجسية

10 سبتمبر 2023
10 سبتمبر 2023

تفرض الشخصنة على صاحبها مجموعة من القيود المعنوية، حتى لا يكاد يتحرر منها، وكلما أراد أن يسلك تجاها نحو الآخرين، فإذا بهذه القيود تعيده إلى مربعه الأول، وهو المربع الذي لا يزال يفرض عليه هالة اجتماعية، أو تربوية، أو خلقية «فطرية» فلا يرى غيرها، ولذلك يظل أسير أفكاره وتقييماته الخاصة، حتى وإن كان كل ما حوله ينبض بالحيوية والحياة الآمنة. وهناك حالة من التربص تتوزع بين جنبات هذا الفرد الذي يعاني من ما يسمى بـ «الشخصنة» والمشكلة المعقدة في هذا الجانب، أن المتشخصن لا يرى في نفسه أنه يمارس سلوكا مغايرا لما عليه الآخرون، بل تشفع له قناعته أنه من حقه أن يكون وفق هذه الهيئة أو السلوك، وأن الآخرين من حوله هم الذين يغالون في إبداء مواقفهم تجاهه، ولذا لا يستبعد أن تجد هذا النوع من أبناء المجتمع كثير الشكوى، والتململ في حياته، وقد لا يستبعد أن يحجم على المشاركة الفاعلة في المجتمع الذي يعيش فيه.

هذا في حالة إسقاط مفهوم الشخصنة على الفرد، ولكن الشخصنة لا تقتصر تداعياتها على الأشخاص، وإنما قد تقاس نتائج سلوكيات أفرادها على مستوى المجتمع ككل، فمجموعة التحزبات التي تتكون؛ سواء على مستوى المجتمع الواحد أو على المستوى الدولي؛ هي نوع من الشخصنة، والتمرد على الأنساق الاجتماعية العامة، ويتضح ذلك في سياسات الدول التي تفرضها على الآخر، حيث يرتفع فيها سهم الفوقية والنرجسية على مستويات عالية عبر ممارسات صدامية كثيرة، فالمتشخصن يدرك أنه ليس من السهولة بمكان استسلام الآخرين له لتنفيذ خططه وبرامجه، وبالتالي فلا يستبعد أن يأخذ بوسائل القوة الصادمة لتحقيق مآربه، وهذا ما نلاحظه على الواقع، سواء واقع الأفراد الذين يعانون من هذه الحالة، أو سواء من الدول عبر أنظمتها السياسية؛ التي تقضي على الأخضر واليابس في سلوكياتها التي تمارسها على الشعوب المستضعفة، مما يؤدي إلى الإضرار بالآخرين، ومعنى هذا؛ فإن صنفت الشخصنة على أنها واحدة من الحالات المرضية ذات البعد النفسي؛ فيقينا؛ لن يكون الأمر مستغربا، فالممارسات السوية التي يبديها الأفراد عبر مستويات السلوكيات المختلفة، لا تشي إلى شيء من الغرابة، أو الدهشة، وما عدا ذلك فهو واقع في مستنقع الأمراض النفسية، وإن تعدد الأسماء، والتوصيفات، والتصنيفات.

تجر الشخصنة وراءها الكثير من المفاهيم الصادمة: كالعنصرية، والتعصب، والإقصاء، والتفرد بالرأي، والمسار الأفقي للحوار فقط، حيث يحرص المتشخصن على أن لا يكون هناك صوت آخر يعلو صوته، ولا رأي آخر غير رأيه، ولا قرار آخر يخالف قراره، وهو بذلك يوجد بيئة مغلقة للحوار والنشاط والحركة، وقد يتجاوز الأمر حدوده عندما يرى في آراء الآخرين أنها تنطلق من بعد شخصي بحت، ولا تذهب إلى خدمة الآخر «وأن فلانا ما قال هذا الكلام إلا أن يمثل بعده الشخصي المطلق» وهذا النوع من الشخصيات يفترض أن لا يُوَلَّى مسؤولية، كيفما يكون مستواها، لأنه سوف يُجَيِّرُ كل المهام الوظيفية لما يخدم مصلحته الخاصة جدا، ولو على مستوى الوطن الكبير، لوجود قناعة «غريبة» عنده مفادها أنه الأولى أن تكون له خاصة؛ ليس شرط أن تعمم على الآخرين، ومن خلال هذه الـ «خاصية» فكل شيء يجب أن يكون تحت خدمته، ويسير وفق مرئياته فقطن ولا يهم إن كان ذلك يسبب ضررا على الآخرين من حوله، أو على المنظومة (الاجتماعية/ التنموية) ولذلك يعد هذا النوع من الناس معيقا لمسيرة التنمية، وكثيرا ما سمعنا عن توقف مشاريع تنموية بسبب معارضة مجتمعية يثيرها فرد أو مجموعة من أبناء المجتمع، فيؤثر ذلك على اتخاذ القرار بالمضي قدما أو التوقف عن تنفيذ المشروع، وكل ذلك ليس لسبب جوهري يؤثر على شيء مما لا يمكن العبث به، ولكن لأن ذلك لا يحتكم إلى الرؤية الخاصة لفلان من الناس، فيذيب رأي العامة؛ على أهميته؛ في رأيه فقط، وكما يحدث على مستوى الوطن الواحد هذه النوع من الممارسات من قبل المتشخصنين في المجتمع، يحدث ذات الأمر على قرارات المستوى الدولي عبر منظمات الأمم المتحدة، وفي كل الموقفين أو الصورتين يتلقى منشأ الخسارة هم الفئات الضعيفة، وهذا النوع من السلوك لا يمثل «تضارب المصالح» بصورة مباشرة، وإن كان على تماس بذات الفهم، ولكن ما يفرق بين الاثنين، إن الشخصنة بقدر ما يعاني صاحبها من الحالة النفسية التي عليها، ينظر للآخرين من حوله على أنهم ليس لهم أحقية في ذات الأمر، بينما يذهب الأمر في مفهوم تضارب المصالح بخلاف ذلك تمام؛ حيث يدرك أمر مصلحة الآخرين، لكن هناك الحرص أكثر على الاستحواذ على النصيب الأكبر، ومحاولة بعدم المساس بمصالحه قدر الإمكان.

هناك علاقة تضاد قائمة بين الشخصنة والحياد، وليس يسيرا البتة التخلص من أحدهما لصالح الآخر، وقد تكون الغلبة بصورة أكثر لجانب الشخصنة، لأنها تخاطب الذات المنتصرة للرغبة، وليست الذات المتنصرة للحاجة، فالحياد؛ كما هو معروف؛ يدرك أهمية تحقيق الحاجات، ولذلك فالحيادي إما أن يكون مع تحقيق المصلحة العامة الذاهبة إلى تحقيق الحاجات، وهي مطالب العامة، وإما أن لا يكون في صف المنادين بتحقيق الرغبات، لأن الرغبات تحقق؛ غالبا؛ مصالح الفرد الخاصة أكثر منها العامة، ومثالا على ذلك: أن كل الأساسيات التي يحتاجها الناس، ويحرصون على اقتنائها، تمثل لهم حجر الزاوية للبقاء والاستمرار في الحياة، وأما ما تجاوز هذه الأساسيات فتدخل في محيط الرغبات، والرغبات في كثير منها ليس ضروريا، وهذا ما يتناقض مع من يعاني من مرض الشخصنة، حيث يرى أن كل ما يحيط به تملكا خاصا، سواء في قائمة الحاجيات الرئيسية، أو خارجا عنها، وهو بذلك يلبي رغباته أكثر من حاجياته، وعنده لا يتوقف الأمر عند توفرها فقط، بل يسعى إليها سعي الحريص الذي لا يمكن أن يترك للآخرين من حوله فرصة الاستحواذ على شيء دون أن لا يكون له فيه جزء منها.

هناك من يعزي أمر تخفيف حدة الشخصنة إلى وصول الفرد المتشخصن إلى مستوى معين من المعرفة، أو الوجاهة الاجتماعية، أو حتى المسؤولية الإدارية؛ حيث تعمل هذه المحفزات - وفق هذه التقييم - على خفض مستوى الشخصنة، وتهذيب صاحبها وتوظيف طاقاتها لما هو عليه الآن، ولكن يبدو الأمر غير ذلك تماما، وبالتالي فليس شرطا أن يكون المتشخصن من الفئات الذين تنقصهم المعرفة، أو خبرة الحياة، أو أنه تعرض لموقف صادم يجعله لأن ينتقم، ويستحوذ، أو يمارس أي شكل من أشكال العنف، وبالتالي يجد الفرصة المناسبة عندما يولى، أو يملك أمرا ما من الأمور العامة التي تخص الآخرين من حوله، حيث يجدها الفرصة المواتية ليجسد شخصيته وسط مختلف الشخصيات المحيطة به، إطلاقا، لن يكون كذلك، فالشخصنة سلوك فطري لا يمكن أن تحول بينه وبين صاحبه مؤثرات جديدة طارئة، وهذا ما يؤصل القناعة بأن الشخصنة مرض نفسي منشأه الفطرة، ولأن منشأه الفطرة، فيبدو أن أمر علاجه ليس يسيرا إلا بتحقيق كل ما يود الاستحواذ عليه، وهذه لوحدها مشكلة موضوعية، لأنه في حالة وجودها لا يمكن أن يكون تقدم محتوى سليما، حيث تأخذهم الشخصنة إلى تغريب المحتوى الحقيقي، وتقديم محتوى غير نقي.

عموما؛ إن المجتمعات الإنسانية تعيش توازنا رائعا في تنظيم سلوكيات أفرادها، فما بين كل النزعات السلبية، هناك توافقات إيجابية تعيشها تخفف من وطأة مختلف الممارسات السلبية التي يبديها بعض الأفراد الذين يعانون من مثل هذه الإخفاقات السلوكية، ويمكن الاطمئنان بأنه لا يمكن أن يكون هناك تجمع مطلق لأفراد يعانون من سلوكيات شاذة تقض مضجع المجتمع، حيث تظل مجمل الممارسات السلبية؛ سواء أكانت تنطلق من محفزات فطرية، أو محفزات سلوكية مكتسبة؛ قليلة، ونسبية جدا، وهي في إطارها الطبيعي جدا، وإن كانت تسبب وخزات مؤلمة في تصرفاتها.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني