السـياسـي في «طـوفـان الأقـصى»
إذا لـم تـكن عمليـة «طـوفـان الأقصـى» في السابـع من أكتـوبر 2023 قـد فعلـت شيئا سياسيا سوى إعادة القـضيـة الوطنـيـة الفلسطيـنيـة إلى قـلب السياسات الـدوليـة، وإلى الوجدان الإنساني العالمي، فـقـد فعـلت كل شيء في السياسـة بـل أكـثر مما فعلـته حتى منظـمة التحرير الفلسطينيـة نفسها منذ انطلاقة الثورة في العام 1965 إلى مـهـلكة «أوسـلو» في العام 1993 ،وطبـعا، أكـثـر بكـثـير ممـا استطاعتـه دول العـرب والمسلمين مجتمعة. وهذا إنـما هو قريـنة على أن السـياسي في «طـوفـان الأقصـى» ليس دون العسكـري فيه نجـاعـة وحصـادا، وأن إهـمالـه والانصـراف إلى الوجـه الـقـتالي منه وحـده، أو تركيز الاهتمام به أكثـر من المستوى السياسي فيه، مسـلـك في النظـر والتـقـدير يبـدد رصيـدا كـبيرا من الموارد التي لا سبيل إلى إحسان تحليل عـملية الطـوفان وبناء استـنـتاجات حـولها إلا باستـدخالها في حساب التـقـديـر ذاك.
نعـم، لسـنا نـنفي ما كان للأداء الـقـتالي الرفيـع للمقاومـة -ومن غيـر إخـلال منها بـقواعـد الحـرب المنصوص عليها في الـقوانيـن الـدوليـة- من الأثـر الكبير في تعظيـم صـورة نضـال الشـعب الفـلسطيـني في الوعـي العالمي، وفي التـفاعـل الإيجابـي مع مطالبـه وحقـوقـه العادلة مـن قـبـل السـواد الأعظـم من شعـوب العالم؛ فعـلى صمـود المقاومـة في حـرب غيـر متـكافـئـة القـوى عسـكريـا انـتصبـت تلك النـتائـج السياسيـة، وعلى سلوك المقاومـة الحضاري مع أسـرى العـدو والمعاملـة الإنسانيـة التي تـلقـوها منها -باعـتـرافـهم- أمكـن لتلك الثـمار السياسيـة أن تـونـع. مع ذلك، لا منـدوحـة عن النـظر في سياسيـات الطـوفان من زاويـة أخرى: من زاوية قـدرته على استـدراج العـدو إلى الإفصـاح الوحشـي عن نازيـتـه، وبالتـالي، إلى إحـداثه الصـدمة في الوعي الغربي من معاينـتها، وإلى دفع الرأي العام في الغـرب والعالم إلى تصحيح الصـورة التي كـونـتـها في وعيـه السـرديـة الصـهيونيـة - الغـربيـة الاستـعماريـة عـن «أبنـاء ضحايا المحرقـة وأحـفادهـم»: الصـورة التي تـغذى منها المشروع الصهـيوني ودولـتـه واتـخـذت درعـا لهما ضد كـل مـن حاول التـشكيك في الروايـة من المفكـرين الغربيـين، وورقـة ابتـزاز دائـم للنـخب السـياسيـة الغـربيـة الحاكمـة والمعارضة لحملها على رفـد دولة الاغـتصاب وإحاطـتها بالحمايـة.
من باب الاستـطراد الضروري أن نقـول هـنا: إن مكاسب فـلسطين السياسيـة على الصعـيد الكـوني، في هذا الطـوفان، ثمرة شراكة غـير معلـنة ولا متـوافـق عليها بين الجلاد والضحـية؛ بمقـدار ما كانت المقاومة حريصة على قـتال جيش الاحتلال، في المقام الأول، بحـرفـيـة عسكريـة (مع ضربات للمـدن في الـداخل الفـلسطيني المحتـل نادرة الخسائر البشريـة)، لم يمنع جيش الاحتلال نـفسـه من الانـتـقام لهـزيمته الشـنـيعة من المدنيـين ومن البنى الأساسية للحياة في غـزة. مائـة ألـف من فلسطيني غـزة راحـوا بين شهيـد ومصاب أكـثـرهم من الأطـفال والنساء. وإلى المـوت حـدث دمار شامل قـصـد إليه لجعـل الحياة في غـزة مستحيلـة؛ حيث لم يُـبْـقِ الجيـش النـازي حـجـرا على حـجـر في القطـاع، ولا شارعا ولا أسـفـلـتا ولا مستـشفـى يملك أن يـسعـف، ولا مدرسة ولا مركـزا للأونروا تملك أن تـؤوي، ولا مطحنة ولا مخبزة ولا محطة وقـود تسـد حاجة... إلخ. وكان على سياسة التـجويع الصـهـيونيـة أن تستـكمل حلـقاتها بمنع قـوافـل المساعدات من الوصول إلى الأهالي الجوعى والمشردين الذين يسكـنون العراء، ثم بفـتح الحرب على الأونروا لقطع شريان الحياة عن أهـل غـزة. لقد كان فريـقـا القـتال: المقاومة والاحتلال، يُعـرِّفان بـنـفسيـهما للعالم، كـلٌ بطريقـته: الأولى بأخلاق الحركات الوطنـيـة التـحرريـة التي تـقاتـل من أجل قضيـة عادلة؛ والثاني بأخلاق القـتـلة والنـازيـين الذين لا قـضيـة لديهم سـوى القـتـل. بهذا المعنى، فـقـد ساهما معا، بأقـساط متـفاوتة، في إنتاج هذه الحالة من التعاطف الكوني مع الشعب الفلسطيني في محنـتـه مع النازيـة الجديدة، ومن المطالبة بتمكيـنه من حقـه في أرضـه واستـقـلاله.
ليس للمقاومة دبلوماسيـة خاصـة؛ لأنها قـوة شعـبيـة وليست دولة، ولكنها أصابت نجاحا كبيرا في الاعـتياض عن الإمكانـيات والأدوات الـدبلوماسيـة بسيـرتها الأخلاقـيـة العالية، مستـفيـدة من نجاح الاحتلال في فضح ما كان يخـفيه من نازية. هكذا خاضت المقاومة - إلى جانب الـقـتال- حرب صـور مع الاحتـلال؛ حربـا تـغـيـت فيها رفـع الأقـنعة عن دولة الاحتلال وجيشـها. ولقـد خرجت منها منـتصرة إلى الـدرجـة التي صار فيها المدافعـون عن دولة الاغـتصاب يخجلون من استخـدام اللازمـة الغـبيـة والحـقيرة عن «حـق إسرائيـل في الـدفاع عن نفسها» ليـتـساءلوا -وإن باحتـشـام- عـمـا إذا كان ما ارتـكبـته هذه الـدولـة من ارتكـابات يفـوق «حـق الـدفـاع عن النـفـس» أو لا ينتمي إليـه بتـاتـا. على أن أضخم هـزائـم الاحتلال السـياسيـة - وبالتـالي أعـظم مكاسب المقاومة وشعبه وقضيـتـه - جـرها إلى العدالة الـدوليـة بتهـمـة ارتكـاب جريمـة الإبادة الجماعيـة، وإقرار المحكمة بمشروعـيـة نظرها في هـذه التـهـمة. وفي لمـح البصر، انـتـقـلت دولة الاغتـصاب والاحتـلال من موقـع المحتـمي من الإدانـة الـدوليـة بالـڤـيـتـو وتحريك أزعـومة «معـاداة السامية» إلى موقع المتـهـم بإبـادة شعب. وفي لمح البصر، ثانيـة، كانت تخـطـئ سـياسيـا في الهجـوم على المحكمة وقـضاتها، وعلى المـدعي (جنوب إفـريـقـيا) نظيـر هـجومها على السـيـد جوتيريش أمين الأمم المتـحدة العام..!
في 6 أكتوبر 2023، كانت قضيـة فـلسطيـن في أسوأ أوضاعها منذ اغـتصابها في العام 1948. كانت قـد خرجت، نـهائـيـا، من السياسة الـدوليـة بوصفها قضيـة وطنيـة لتصبح محض قضيـة سكان مناطـق تقوم عليها سلطة متعاونة مع الاحتلال، يحتاجـون إلى مساعدات دوليـة لتحسين أوضاعهم المعـيشـيـة. هكذا كانت «صـفـقة القـرن»؛ وهكـذا انتهى الصـراع العـربي- الصـهيـوني ليصبح «شـراكة» و«تـعاونـا» ممـكـنين من طريق تفريـخ مشاريع التـطـبيع بين الحكـومات العربيـة والكيان الغاصب. في الأثـنـاء، انطلق عـفـريت الاستـيطـان في الضـفـة الغـربيـة والقـدس من قـمـقـمه من غيـر رادع يـردعـه؛ وبدأ الموتـورون الصـهاينـة يجـهرون بهلوسـاتهم عن هـدم المسجد الأقصـى لإقامـة الهيكـل المزعـوم؛ واستمـرت أجهـزة السلطـة تقـدم السـخـرة لأجهـزة الاحتلال وتزودها بالمعلومات عن خلايا المقاومة في الضـفـة، فيما القـطاع معـزول ومحاصـر من قـبـل دولة الاغتصـاب. كـل شيء كان يبـدو وكأنـه انـتـهى في السادس من أكتـوبر. ثـم جاء اليوم السابـع من الشـهر فـغـيـر كـل شيء، ومـحا حقبـة كاملـة من الهـوان والاستضـعـاف وهضـم الحقوق والتـهميش والتـغيـيـب. وها هي قضيـة فلسطيـن تلعلع اليـوم في الشـوارع والساحـات على امتـداد الكـوكـب. لقـد نجح «طـوفان الأقـصى» في أن يفـتح على المشـروع الصـهيـوني الطـوفان الأقصى.