السياسة: من النموذج الذهني إلى الواقـع
في أربعة من أجناس القول السياسي، في تراث الإسلام، هيمنتْ نظرة إلى السياسي (السلطة، الدولة...) مشدودة إلى نموذج من الحكم تحاول أن تستنسخه أو تحاكيه أو تستلهمه بما هو نموذج منظور إليه -من قبلها- بوصفه المثال الذي على الدولة والسلطة في بلاد الإسلام أن تحتذياه. المثال هذا متفاوت الأشكال والهيئات، في الوعي الإسلامي، بين نموذج محلي إسلامي صرف ونماذج برانية تبعا لزاوية النظر إليه (دينية، دنيويـة، عقـلية). أما أجناس القول السياسي الأربعة التي عنينا فهي: علم الكلام، فقه السياسة الشرعية، الآداب السلطانية، والسياسة المدنية. هكذا كان لكل من الكـتاب المؤلفين، داخل هذه الأجناس، نموذج مرجعي يبني عليه وعيه بالسياسي ويدعو إليه ويبشـر به، ولكن على تفاوت بينهم في درجات الدعوة والتبشير وفي مداها وسعة مساحتها في الجمهور المخاطب.
نموذج المتكلـم والفقيه كان الخلافة؛ وهذه مبتدأ كل حديث في السياسة ونظام الحكم ومناطه وأفْـقه الذي إليه يتشوف أهل الملة عندهما. ما من سياسة إسلامية، على الحقيقة، إلا تلك التي تستعيد نظام الخلافة، أو تحاكيه، أو تستلهمه وتسير على هدْيه أو تبني، في الأقـل، على أساساته: يقول الجمهور الأعظم من علماء الكلام والفقهاء. ونموذج الكاتب السلطاني دولة الملْك السياسي، دولة كسرى والقواعد التي عليها قام نظامها (أعني القـوة والعدل...)؛ وهذا نموذج قام في بلاد فارس قبل الإسلام، واستمرت جاذبيتـه لدى المسلمين شديدة: من كان منهم من ذوي الأصول الفارسية ومن لم يكن؛ من كانوا يديرون أمور الرعية ومن كانوا يكتبون ويؤلفون. أما نموذج الفيلسوف فالمدينة اليونانية التي مبْناها على العـقل. وسواء كان قيام مثل هذه المدينة (= الدولة) ممكنا في بلاد الإسلام أو غير ممكن - وإنما يقود امتناع إمكانه إلى سلوك سبيل أخرى هي تدبير النفس على مقتضى العقل للاستغناء عن المدينة رأسا (= تدبير المتوحـد كما عـنْـون به ابن باجة أحد كتبه)، فإنه يبقى، عند الفلاسفة، نموذجا سياسيا مثاليا للاحتذاء أو الاستلهام.
نحن في هذه النماذج من أنظمة الحكم، إذن، أمام نماذج تاريخية قائمة سلفا، أي سابقة في الوجود لوعي هؤلاء المفكرين بها (دولة الخلافة، دولة الملْـك، دولة العقـل). وهذا يرتب، بالتبعة، نتيجتـيْن: أولاهما؛ أن تصورات السياسة في الإسلام ليست تخرج، في وجهتها العامة، عن حدود المحاكاة والاستلهـام لهـذا النموذج أو ذاك مـن نماذج السياسة المتحقـقة سابقا، وبالتالي، هي تسلم -كل تصور من موقعه- بـجاهزية النموذج المرتجى واكتماله، ولا تدخل معه -أو مع القائلين به- في أي حوار نقدي. وثانيهما؛ أن امتناع تحقق أي من تلك النماذج الثلاثة (خاصة الخلافة ودولة الفيلسوف) من طريق الاستعادة والاسترجاع والتـكرار، أو بالمحاكاة -نظرا إلى اختلاف الشروط- يجعل كل واحد منها بمثابة طـوبى تـنْشد إليها العقول والنفوس، مثلما يفرض على التفكير فيها أن يكون، حكْما، تفكيرا طوبـويا يحاول صعْبا أو مستحيلا: أمْـكنة Possibilisation الممتنع أو المستحيل (= جعله ممكنا)؛ وهي عملية معرفية جوفاء وصورية، في مطافها الأخير، بل هي عقيمة بحيث ليست تملك أن تـنجب رؤية إلى الموضوع يمكن الاستفادة منها فكريـا وعملـيا.
غير أن اللحظة الخلدونية في الفكر العربي الإسلامي، وبالذات الرؤية الخلدونية إلى السياسة والدولة، أحدثت انعطافة نوعية كبرى في وعي مسائل الاجتماع السياسي في الإسلام. بيان ذلك أن تلك الرؤية لم يكـن فـضلها، فـقـط، في أنها أخرجت التـفكير في السـياسـة من نطاق التـفكـير في الدين -فحـفظت للسياسة، بذلك، استقلاليتها كصعيد في البناء الاجتماعي- بل في أنها ربطت السياسة، في الوقت عيـنه، بعوامل العمران الأخرى (الاجتماعية والاقتصادية والثـقافية) فأصبحت، بمقتضى ذلك الربط، من الظواهـر المجتمعية القابلة للدرس، وللتعليل بجملة العلل المادية المتصلة بالعمران وقوانينه الحاكمة (المعاش، العصبية، أحوال الحضارة، الترف والفساد...) على نحو ما درسها في المقدمـة.
تـولـد من هذه الطريقة الخلدونية في بناء موضوع السياسة جملة من النتائج تقوم بينها علاقات اتصال وترابـط: أولاها؛ أن ابن خلدون لم يفكـر في دولة ذهنية، أو في دولة من مجال حضاري آخر من خارج الواقع المباشر للاجتماع الإسلامي القائم -خلافا لما انزلق إليه المتكلمون والفقهاء وكتاب الدواوين والفلاسفة- بل انحصر تفكيره وتحليله في نطاق الدول القائمة في عالم الإسلام (الدول الواقعية). ثانيها؛ أن عمل ابن خلدون انصرف، كلية، إلى التحليل: تحليل كيان الدولة القائمة واشتقاق المعرفة بها وبنظام اشتغالها منها هي لا من مثال ما فوقها. وغني عن البيان أن فعل التحليل -بما هو فعْل معرفي- يقود إليه وإلى توسله نوع الموضوع الذي يطرحه الدارس على نفسه؛ وابن خلدون طرح على نفسه موضوعا هو: الدولة القائمة من داخلها، لذلك ما كان يمكنه إلا تحليل نظامها وبالتالي، الانصراف عما سقط فيه غيره من مصادرة على المطلوب في التفكير (من طريق وضْعهم مقدمات مبرهـنا عليها، سلفا، في سوابق)، والانزياح عن طرائقهم في المحاكاة وفي الاستلهام أو البناء على المثال...إلخ. أما ثالثها فيتمثل في تخطي ابن خلدون كل نظرة طوبوية إلى مجال السياسة والدولة، والتمسك بنظرة واقعية وضعانية، إلى الحد الذي أحجم فيه عن التفكير في ما عدا واقـع الدولة القائم، من قبيل تقديم تصور لإصلاح أحوالها مثلا.
مع عبدالرحمن ابن خلدون، لم ينتقل الوعي العربي الإسلامي من الطوبـى إلى الواقع فحسب، بل خـط أحْرفـه الأولى في باب الواقعية السياسية (قبل أن يهتدي إليها ميكياڤيللي بزمن). ولكنها -من أسف- الحروف التي لم تعْـثـرْ على من يكْـملها نصا بعد ابن خلدون!