السوق.. في بعده الاجتماعي
كيف يعكس السوق طبيعة الحياة الاجتماعية في أي مجتمع؟ سؤال أتخذه مدخلا للحديث عن السوق؛ هذا المفهوم الواسع، متعدد التعريفات والمفاهيم، والخاضع كثيرا لمجموعة من التقييمات التي يقرها كل مجتمع على حدة، والسوق في عمومية الفهم ينظر إليه على أنه الأكثر حضورا لدى الذاكرة الاجتماعية؛ ولن نبالغ إذا قيمنا هذا الحضور على أنه يتجاوز ربما حتى المسجد والمدرسة، كأهم معلمين على الإطلاق اللذين يتخذان مكانا متوسطا في هذه الذاكرة، وذلك لسبب بسيط، وهو الارتباط الكبير في العلاقة المزدوجة بين الفرد والسوق، وبين السوق والفرد؛ حيث تنشأ هذه العلاقة منذ النشأة الأولى لعمر الإنسان، ففطرة التملك الموجودة عند الطفل الذي ربما لم يبلغ السن الثالثة أو الرابعة، هي انعكاس لحضور السوق في الذاكرة الجمعية، ومنها تنمو نموا متسارعا في هذه الذاكرة، فلا تستفيق من غفوتها دون أن يكون لمفهوم السوق متسع فيها، ومتشعب إلى حد بعيد، ويعزز ذلك كله مجموعة الصور التي يبثها السوق والمتمثلة في كل أنشطته اليومية عبر محلاته، وعرصاته، وحسباته، في صور من التعاطي بينه وبين الفرد طوال الـ(24) ساعة في اليوم، والسوق هنا بهذا المفهوم لا يقتصر على مكان بعينه فقط، حيث تتجه الأنظار إليه كل اليوم كالأسواق الشعبية «التقليدية» فقد اتسع المفهوم اليوم ليشمل كل ركن جانبي يروج لسلعة من السلع بعينها «سوق متخصص»، أو يضم مجموعة من السلع «سوق شامل» يلبي كل رغبة وحاجة من حاجات الفرد، أو المجموعة، حيث يضم هذا السوق مختلف الأعمار السنية، ومختلف الفئات المجتمعية، ومختلف المستويات المادية، ومختلف التناقضات الوجاهية، ومختلف التوجهات السلوكية، ومختلف المضاربات التجارية، سواء تمثل هذا المفهوم في مؤسسة بعينها، أو مجموعة أفراد، أو فرد باستقلاليته الإدارية والمالية، ويندرج تحت هذا المفهوم أيضا مجموعة الخبرات والتجارب «بيت خبرة» وقد سمعنا كبار السن؛ منذ طفولتنا المبكرة؛ أنه لا يكفي من يذهب إلى السوق أن يكون محملا بالمال فقط، فلا بد أن ترافق هذا المال مجموعة من القيم الذهنية، والمواهب الفطرية عند الشخص حتى يستطيع أن يلج السوق ويخرج منه رابحا.
يقدمك السوق للآخر؛ ليس انطلاقا من مركزك الوظيفي أو الوجاهي فقط، ولكن من مستواك المادي، فقد يتقدم صاحب المال على صاحب المركز الوظيفي أو المركز الوجاهي، فبقدر ما تمتلئ جيوبك من مال، فأنت الفرد المميز في السوق، لا يهم أن تكون ملابسك نظيفة، أو سيارتك فارهة، أو شكلك يبدو عليه سمات النعمة والوقار، أو عكس ذلك تماما، فهذه المشاهد الماثلة للعيان؛ إن لم تترجم على واقع السوق من خلال انزلاق كميات كبيرة من النقود؛ فإن كل ذلك لن يشفع لك لأن يستقبلك السوق بالأحضان؛ لأن السوق -كما هو معروف- قائم على مبدأ الربح والخسارة، ولن يكون هناك خيار ثالث، ومن يقع نصيبه في الخيار الثالث -لا ربح ولا خسارة- فهو ليس من أبناء الأسواق، ولذلك قيل قديما: «لا تهبط الأسواق إن كنت مفلسا؛ تزداد غما يا قليل الدراهم»، وهذه حقيقة.
يمكن أيضا؛ طرح السؤال التالي: هل تخضع المعايير الاجتماعية لآليات السوق، أم أن بين الطرفين شيئا من التضاد؟ وللإجابة عن هذا السؤال؛ يمكن القول: إن المعايير الاجتماعية أغلبها ذاهبة إلى حيث المثالية، أو هذا ما يطمح إليه الأفراد في المجتمع من تبنيها كأسلوب تعامل فيما بينهم، بينما السوق لا يخضع لكثير من المثاليات؛ حتى وإن حاول البعض من أبناء السوق أن يحذو حذو هذه القيم من حيث الأمانة، والصدق، والنزاهة، سواء في عرض السلع، أو في تسويقها، ولكن الشائع أن الكثيرين لا يهمهم هذا الترقي السامي للمعايير الاجتماعية، فهو يرى أنه في لحظة فارقة بين عرض سلعته وبين زبون يريد هذه السلعة قد لا يتكرر مرة ثانية، أو يأخذ وقتا طويلا لحضور متسوق جديد، وبالتالي فعلى صاحب السوق أن يسوق سلعته بأي طريقة، سواء قصد أو لم يقصد في ممارسة: (المبالغة في الربح، الكذب، التحايل، الغش) وهذا ليس تعميما، وإنما واقعا ملموسا، فالهدف الختامي للحظة العلاقة بين الطرفين أن يتحقق ربح ما، وخاصة عند عارض السلعة.
تُقَيَّم شبكة العلاقات التي تنبني بين السوق والمجتمع على أنها من أقوى الشبكات في الفهم الاجتماعي؛ لامتزاجها بين الاجتماع والاقتصاد، ولذلك تترقى هذه العلاقات في بعض الأحيان حتى الوصول إلى مراحل النسب، وهناك الكثير من القصص التي تروى عند كبار السن عن حالات التزويج التي تتم بين أصحاب السوق وبين المتسوقين نتيجة حالات التقارب التي تتم بين الطرفين، وتكرار الزيارات، خاصة عندما يلمس أحد الطرفين أو كلاهما نوعا من الود، وصدق التعامل، والأمانة، والسماحة واللطف؛ فهذه كلها معززات من شأنها أن تغري أحد الأطراف لأن يكون قريبا من الآخر، أو قد تنبني شبكة العلاقات نتيجة للتبادل التجاري بين الطرفين -منتج للسلع، ومسوق لها- وقد تنتقل هذه العلاقة فيما بعد إلى الأبناء بعد طول مكث، حيث تتجاوز العلاقة -بعد طول سنين- علاقة بائع ومشترٍ، إلى علاقات شخصية بحتة، تسمو فيها الإنسانية في أروع صورها، وما كان لها أن تكون لولا أن الحاضنة الكبرى للسوق هي التي هيأت السبل الكفيلة لإقامة مثل هذه العلاقات الإنسانية المتجاوزة لحدود الربح والخسارة، والمرجحة للكفة الإنسانية النقية، وهذا بدوره لا يمنع من أن تظهر علاقات جدلية في معادلة السوق بين الطرفين، أحدهما يريد سلعة، وآخر يمتلك سلعة، وهي ما تؤدي هنا إلى بداية لغة حوار تمتد طويلا، وقد تفضي إلى علاقات تتجاوز مفهوم السوق، ومع ذلك لا يزال هناك صراع قائم توجده مختلف العلاقات القائمة على مفهوم السوق، من الأخذ والرد، والتكتل، واقتناص الفرص، والاحتكار، وهذا الصراع يظل في حالته الطبيعية، ويظل مقبولا إلى حد بعيد، فهو صراع مشروع، يتفهمه أصحاب السوق أنفسهم، ويعيه المتسوقون كذلك، من خلال مجموعة من التعاقدات السوقية التي تدخل فيها مجموعة التعاقدات الاجتماعية كنتيجة أخرى لتعدد مجموعة التعاقدات التي يفرزها السوق، بما في ذلك التعاقدات السياسية أيضا، فالمجموعة الفسيفسائية التي تتكون منها الصورة العامة للسوق تحفل بجميع التعاقدات المعروفة، ولا يستثنى من ذلك أي سلوك اجتماعي يطلق على تكونه تعاقد ما، وذلك كله محسوب على حركة السوق وآليات عمله اليومي، وهي عمليات في غاية التعقيد، وليس من السهل فهمها عند الجميع، فالمسألة تحتاج إلى قراءة واعية لآليات السوق اليومية، وما يتم فيه من أخذ ورد، ومن عقد وفض، ومن تقارب وتباعد، ومن التحام وتصدع، ويبقى السوق عاشقا لذاته، وطاردا لذاته في الوقت نفسه، عاشق لأن ليس هناك من لا يهوى السوق، وطارد لأن ليس هناك من لا يخاف من السوق.
ولذا يستحوذ السوق على حوارات المجالس لدى العامة، وفي المنازل وغيرها بصورة يومية، ويظل من النادر جدا ألا تكون للسوق مساحة للحوار بين أي مجتمعين في أي زمان ومكان، ومعنى ذلك أن هذه الحوارات لم تأت من فراغ، وإنما تفعلها آليات العمل اليومية في الأسواق، وتفعلها مجموعة التقاطعات الموجودة بين رواد السوق وأصحاب السوق، ولذلك يردد دائما أنك إذا أردت أن تبحث عن خبر جديد؛ فعليك الذهاب إلى السوق؛ حيث تكثر الحوارات، والتصادمات، والاختلافات، والتعاقدات، ففيه تعرض الأفكار، والسلع، والخدمات، والمشاعر، وفيه تمتحن الإرادات، وتسمو الحكمة، وحسن التصرف؛ أو العكس، ومن هنا شكل (دفتر الدين) أحد المحطات المهمة بين بائع صبور، وبين مشتر جسور، وكان الرهان على مستوى العلاقات القائمة بين الطرفين أن تقوم على الأمانة، والصدق، والثقة، وإلا نظر إلى هذا الدفتر على أنه الـ«فلتر» الذي ينقي هذه العلاقة من كل الشوائب الرديئة، وخاصة عند المدين، الذي يضع الدائن فيه ثقته إلى حد كبير.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني