السم في عسل الشراكة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي مع دول الخليج
من يحتاج لمن الآن؟ هل دول مجلس التعاون الخليجي للاتحاد الأوروبي أم العكس؟ وهل يمكن أن تكون هناك شراكة دون أن تتدخل أوروبا في الشؤون الداخلية لدول مجلس التعاون الخليجي؟ قضية الشراكة الأوروبية مع الدول الخليجية العربية، ينبغي أن تطرح من منظور هذين التساؤلين حتى نفهم الدوافع والأسباب التي تجعل «27» دولة تشكل المنظومة الأوروبية تصدر وثيقة استراتيجية للشراكة مع دول المنظومة الخليجية الست، ولماذا الآن بعد خذلان دول الخليج في قضايا أمنية وتجارية، ووضع شروط مشددة على تصدير أسلحتها لهم؟ قد لا نتوسع في هذا المنظور كثيرا، لأنه ستكون لنا فيه مساهمة خليجية معمقة قريبا، والشيء الذي نلفت الانتباه إليه هنا، هو أن هذه الشراكة هي نتاج توافقات بين كل مؤسسات الاتحاد الأوربي الديمقراطية كالبرلمان الأوروبي، والحكومية كالمفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي، والمؤسسات المتخصصة التابعة لها، مثل مؤسسات حقوق الإنسان وحرياته، ونظيراتها المستقلة، وتلكم التي ترتبط مع الاتحاد الأوروبي في شراكات مثل المؤسسات المثلية والنسوية والإلحادية.
وهذا يعني أن كل الأجندات الأوروبية المرئية وغير المرئية تتضمنها وثيقة الشراكة، وإلا، فلن يحدث هذا التوافق المؤسساتي، علمًا أن الأجندات متعددة ومتباينة فيما بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي، فالبرلمان - ينتخب من أحزاب دول الأعضاء - له أجندته الفكرية والأيديولوجية المعروفة، وتسيطر عليه الأحزاب اليمينية المتطرفة التي هي في حالة صعود سياسي سواء في المؤسسات السياسية والتشريعية داخل دولها، أو في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، بينما للمجلس المكون من وزراء حكومات الدول ألأوروبية، له أجندته السياسية والاقتصادية والأمنية، فعندما يحدث التوافق بين كل مؤسسات الاتحاد الأوروبي الحكومية والمستقلة، فهذا يعني أن الخليج سيواجه تحديات وإكراهات من العيار الثقيل، وعليه التفكير الذكي في كيفية العمل على مواجهتها سريعا، وهناك هوامش للخليج سياسية وقانونية واقتصادية يمكن أن يستخدمها للدفاع عن مجموع مصالحه سواء على صعيد كل دولة خليجية أو على صعيد المنظومة الخليجية.
والمدهش أن المواقف الخليجية من الشراكة الأوروبية التي تابعناها، أنها قد رحبت بها، ولم تمررها على مطابخها الفكرية لدراستها، أو على الأقل إعمال فكرها فيها، ولو فعلت لتمكنت من رؤية السم المدسوس في عسل انفتاح أوروبا على قضايا خليجية بصورة غير مسبوقة مثل قضية الأمن الخليجي، والمنافع الاقتصادية بين الجانبين التي استحوذت على ثلثي الوثيقة، وحتى هذه القضايا سيخرج الفكر منها بنفعية أوروبية دافعة للشراكة، وطبيعة هذا السم نجده في بند من أهم بنود هذه الشراكة، وهو الذي يقف وراء التوافقات الأوروبية، وهو بند «الشراكة المجتمعية الأوروبية الخليجية» ونجدها في أربع صفحات في الوثيقة، ومكامن خطورتها -أي الشراكة المجتمعية- أنها تمثل رؤية المؤسسات الديمقراطية كالبرلمان الأوروبي، ومؤسسات حقوق الإنسان وحرياته الحريات، وتلكم التي تربط معها بشراكات كالمثلية والنسوية، وقد أصبحت هذه المؤسسات تؤثر على صناديق الانتخابات الأوروبية والاتحادية.
وقد صيغت مقتضيات الشراكة المجتمعية الأوروبية الخليجية بصورة ذكية، لكنها لن تنطوي على العارفين بالأجندات الأوروبية الفكرية والأيديولوجية، ومساعي زرعها داخل المنطقة الخليجية، ففي بند هذه الشراكة المجتمعية حدد بالاسم القضايا التالية «تمكين المرأة والثقافة والتعليم، وتبادل زيارات الطلاب والشباب وحقوق الإنسان وحرياته» وهذه مفردات فضفافة، صيغت لدواعي التمرير، وبالرجوع إلى الحريات الأربع الأوروبية، وهي حرية العبادة، وحرية الرأي والتعبير، والتحرر من الحاجة، والتحرر من الخوف سيتضح له مدى ارتباط تلكم القضايا بهذه الحريات، سيحاولون فرضها خارج منطقتها الأوروبية لغايات سياسية، وستتداخل معها الأفكار اليمينة المتطرفة الجديدة، كالنسوية والإلحاد والمثلية.. الخ وهذا توجه عام متصاعد في الغرب، وليس فقط محصورا على الاتحاد الأوروبي مع التفاوت، وقد كتبنا «وكررناه مرات» عن خطة وزارة الخارجية الأمريكية تحول مسار برنامج مساعداتها الخارجية إلى دعم تيارات ومنظمات الإلحاد في المنطقة، وهذا معلن من قبل الوزارة، وهو أكبر الاستدلالات التي نقدمها هنا.
وخطوة الخارجية الأمريكية لم تأتِ من فراغ، وإنما هي وفق حسابات سياسية دقيقة، رأيت في التوقيت الزمني الراهن ما ينجح نشر أفكارها ومعتقداتها، وتتزامن الآن معها خطوة الاتحاد الأوروبي، ويبدو لنا أنهما تنطلقان من حيث التوقيت من نجاح الحركة الصهيونية في التمدد في بعض العواصم الخليج، وتأسيس لها بنيات مستدامة قابلة للعبور الإقليمي الخليجي بسهولة، وذلك في ظل غياب أي إدارة فردية أو جماعية من الخليجيين، مما يبدو لنا أن كل الأبواب السياسية في الخليج مفتوحة لكل الأفكار والأيديولوجيات.
من هنا نعتبر بند «الشراكة المجتمعية بين الاتحاد والخليج» أهم تدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليجية الست، لأنه يمس جوهر ثوابتها الأصيلة، والمساس بها خط أحمر، وإذا لم تتدخل الدول الست بصورة جماعية وتمنع هذا التدخل في الوقت المناسب، فإن عليها أن تتوقع ردة فعل ثيولوجية داخلية، ستختلف في العواصم الخليجية باختلاف قوتها في كل دولة، وبالتالي نتوقع هنا صيرورة ثيولوجية غير مسبوقة وفي المدى المتوسط، تأخذ في أسوأ سيناريوهاتها شكل صراعات سياسية داخلية، خاصة إذا ما تلاقت التدخلات الأوروبية في الثوابت الثيولوجية الخليجية مع نظيراتها الأمريكية والصهيونية والهندوسية.. الخ، ولا يمكن التقليل من هذا السيناريو أبدًا، فاستشرافاته مبنية على تحليل دقيق للأجندات الأجنبية في الخليج، واستهدافاتها الثيولوجية والاجتماعية والاقتصادية مكشوفة، وغاياتها السياسية المستقبلية وجودية.
وهنا ينبغي أن نسقط ما أوضحناه في مقالنا السابق المعنون باسم «ما وراء إلغاء تأشيرة الشنجن لدول عربية خليجية» لتأكيد ما سبق، ففيه ركزنا على برنامج أوروبا العالمية لتعزيز حريات وحقوق الإنسان، وقد خصص له موازنة تبلغ 1.7 مليار يورو حتى عام 2027، وهنا تنكشف لنا النوايا واستهدافاتها وغاياتها، فهذا البرنامج الذي يحاول من خلاله الاتحاد نشر أفكاره ومعتقداته في الخارج، سيكون أكبر أداة تنفيذية لبند الشراكة المجتمعية الأوروبية الخليجية، وهذا التزامن بين الشراكة وأداة تنفيذها: البرنامج الأوروبي وموازنته - يضعنا بصورة عقلانية ومباشرة أمام المخاطر والإكراهات التي تنتظر الخليج العربي من الشراكة الاستراتيجية الأوروبية الخليجية، ومهما يكن، فإنه على دول المنظومة الخليجية أن تعمل جاهدة على منع اختراق منظومتها الأيديولوجية والفكرية مهما كانت التحديدات والإكراهات.
وهنا ندعو إلى موقف خليجي جماعي من هذه الشراكة، وبالذات في بندها الاجتماعي، وحبذا لو يكون ذلك من خلال قمة خليجية استثنائية أو على الأقل من خلال المجلس الوزاري الخليجي للتنصيص على الرؤية المجتمعية الخليجية التي ينبغي أن تقوم على أساس عدم التدخل في شؤون الخليج الداخلية، واحترام سيادتها وخصوصيتها الأيديولوجية والفكرية والثقافية أسوة بما تفعله الصين في شركاتها مع دول المنطقة، ويمكن للخليج فرض أجندته بسهولة فدول الاتحاد الأوروبي هي التي في أمسّ الحاجة لدول الخليج، وتعاني من مجموعة مشكلات كبيرة تدق ناقوس الخطر على الأنظمة القائم فيها، كما يشكل فشل منظوماتها الأمنية والعسكرية في حفظ أمنها، بما فيها حلف الناتو، ضعف أخر للاتحاد الأوروبي.