السعي للعدالة

29 يوليو 2023
29 يوليو 2023

السعي للعدالة هو عنوان لكتاب صدر حديثًا للدكتور خالد فهمي، الأستاذ في جامعة تافتس Tufts University بالولايات المتحدة الأمريكية، والدكتور خالد فهمي يحمل تاريخا من المعارف المتنوعة، فهو حاصل على الليسانس في الاقتصاد، ثم درجة الماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأمريكية، إلا أنه كان شغوفًا بالتاريخ وخصوصًا في مجال الاقتصاد والقانون، لذا فقد أنجز عدة دراسات في موضوعات غير تقليدية لم يطرقها المؤرخون جميعها تتعلق بقضايا الحياة على اعتبار أن التاريخ هو مجال متسع لكل علوم الحياة بكل تفاصيلها، جاءت كتابات خالد فهمي مختلفة ليس في موضوعاتها فقط وإنما في مناهجها ومصادرها، وقد اتسمت جميعها بالعناية بالفكر والحداثة، فضلًا عن التحليلات المبتكرة التي ربما لم يسبقه أحد إليها.

لهذا مضى خالد فهمي في كتابه الجديد (السعي للعدالة)، ومن قبله كان كتابه (كل رجال الباشا) و(الجسد والحداثة)، وفي كل ما كتب كان صاحب رؤية مختلفة، فقد مزج ما بين القانون والفكر والمعارف الإسلامية والمذاهب الدينية، لكن تبقى رؤية خالد فهمي متفردة في تحليلاتها ومناهجها وصياغاتها، وكان في كل ما كتب منفتحا على مختلف المعارف الإنسانية والقانونية والاجتماعية، وفي هذا السياق يأتي كتابه (السعي للعدالة)، مؤرخا لمدرسة الطب المصري، التي أسسها محمد علي حاكم مصر ١٨٢٢- ١٨٤٨ م، والذي ضرب عرض الحائط بموقف علماء الأزهر، بعد أن رفض شيخ الأزهر وقتئذ (الشيخ العروسي)، بشكل قاطع تشريح أجساد الموتى حتى ولو كانت بغرض التعليم، بحجة أن الجثث تشعر بالألم كما يشعر به الأحياء، وعندما حاول (كلوت بك) المكلف بإنشاء مدرسة الطب إقناع الشيخ بأهمية التشريح، اشترط الشيخ أن يتم ذلك بسرية تامة بعيدا عن معرفة الناس، وأن يقتصر التشريح على جثث غير المسلمين.

لجأ (كلوت بك) في دراسة علم التشريح على جثث جنود (وثنيين)، كانوا من بين الجنود الذين جلبهم محمد علي من إفريقيا، إلا أن (كلوت بك) لم يسلم من غضب طلابه، حينما هجم عليه أحدهم بسكين محاولا قتله، وقد أصابه بجرح غائر، ورغم إن زملاء الطالب قد حالوا دون قتل أستاذهم، إلا أن ذلك لم يمنعهم عند محاكمته بالقول إنه لا يجوز أن يؤُخذ دم مسلم بدم المسيحي، وقد تجمهر الطلاب لدرجة أن اضطرت السلطات للإفراج عن المعتدي دون عقاب.

عقب هذه الحادثة عزم (كلوت بك) على مغادرة مصر، إلا أن محمد علي قد طمأنه ووعده بالمحافظة على سلامته، لذا قبل الرجل أن يواصل مهمته، وبفضل مثابرته وإصراره نجح في ما أخطته لنفسه، واستطاع التغلب على كراهية الطلاب وقَهر تعصبهم، ومعارضتهم لعلم التشريح التعليمي،. لم يعد أحد منهم يرى أن تشريح الجسد أمرًا مخالفا للدين، ويتناول الكتاب تعريفا مفصلا للدكتور كلوت بك القادم من فرنسا وكيف انتهى به الأمر لكي يوكل إليه محمد علي إنشاء مدرسة الطب، ألم يكن الأجدى أن يستقدم محمد علي عددا من الأطباء الأجانب بدلًا من الجهد والمال؟ إلا أن رؤية الرجل كانت ثاقبة، فقد كان عازما على نشر التعليم الطبي بين أبناء المصريين، كغيره من العلوم الأخرى التي سعى في نشرها بين المصريين.

جاء قرار نقل مدرسة الطب من منطقة (أبي زعبل) على مشارف القاهرة، إلى منطقة قصر العيني ١٨٣٧، القريبة من قلب القاهرة- بمثابة مرحلة جديدة بهدف إعداد مدرسة ومستشفى لا يقتصر دورها على مجرد تشريح الجثث لأسباب تعليمية فقط، وإنما لأغراض علاجية وقانونية وجنائية للوقوف على سبب الوفاة، بعد أن توسعت الدولة في الانتقال بالمجتمع إلى مرحلة جديدة بما فيها إجبار الناس على قيد المواليد، وقيد أسماء الموتى وتعميم التطعيم ضد الأوبئة، والكشف الطبي بشكل دوري على العمال والطلاب والجنود، وزاد السلطة من سيطرتها حينما أجبرت الناس على حمل تصاريح السفر من مديرية إلى أخرى، ومضت الدولة نحو الإعلاء من قيم العلم، وتشريح الجثث فيما يتعلق بالجرائم الجنائية، واعتمدت المحاكم في أحكامها على ما كان يتوصل إليه التشريح، من خلال نوع جديد من المحاكم (المجالس القانونية) وهي محاكم استحدثها محمد علي بعيدًا عن المحاكم الشرعية، وهي نقلة كبيرة في تطور الإجراءات القانونية، التي تُعلي من قيم العلم.

أعتقد أن المجال الذي طرقه خالد فهمي يعد متفردا في موضوعه، وخصوصًا وهو يتناول جوانب طبية وفنية وقانونية لم يسبق أن تطرق إليها الكثير من المؤرخين، وعلى الرغم من أن الدكتور خالد كان قاسيًا في حكمه على محمد علي، إلا أن الرجل قد نقل مصر نقلة جديدة، وإذا كانت الحملة الفرنسية على مصر بمثابة صدمة حضارية هائلة، ونقلت مصر من العصر العثماني الذي توقفت فيه الحياة عبر ثلاثة قرون، إلا أن محمد علي قد تمكن بجدارة من أن تتبوأ مصر مكانتها في التخطيط والتنمية، وكان المصريون هم وقود هذه النقلة الكبيرة، وخصوصا في مجال بناء جيش قوي، فضلا عن تواصله مع الحضارة الحديثة في أوروبا في كافة المجالات الطبية والقانونية وغيرها من المعارف المختلفة.

يطرح خالد فهمي تساؤلات عديدة عن مفهوم الحداثة بكل تفاصيلها، والتي لا يمكن فهمها إذا اكتفينا بدراسة علاقات مصر بأوروبا بشكل عام، بل يجب النظر إليها في السياقات الأوسع التي تطرقت لكل مناحي الحياة. اللافت للنظر أن الفرنسي (كلوت بك) المؤسس الأول لمدرسة الطب الحديث في مصر لم يأت مندوبًا من الحكومة الفرنسية، بل كان الرجل حالما بتطوير مجتمع كان يتحرق شوقًا نحو المعرفة، وقد أتاح له محمد علي هذه الفرصة، وكان متسلحًا بمعارف طبية كبيرة، فقد تخرج من كلية الطب في جامعة مونبلييه، ولغته الأساسية الفرنسية لكنه استطاع بجدارة أن يؤسس مدرسة مصرية للطب، قوام التعليم فيها اللغة العربية، وكانت كل العلوم والبحوث الحديثة يتم ترجمتها بمعرفة مدرسة الألسن، ومن المؤكد أن مدرسة طب قصر العيني قد اقتحمت كل المجالات القانونية التي تعاملت مع منجزات العلم الحديث.

استطاع خالد فهمي أن يستقي معلوماته من الوثائق المصرية، التي أجاد استخدامها بمهارة، وقد أحدث حوارا بناء بين الطب والقانون من خلال قضايا عديدة مست حياة المصريين، كالعقاب الجسدي والتطعيم والتشريح والرقابة على الأسواق، وفي كل ما كتب كان منتصرا للعلم، مشتبكا مع القائلين بأن الشريعة الإسلامية لم تترك شيئا إلا أحصته، لذا كانت معارضة الشيوخ ليس للطب الحديث فقط وإنما للمحاكم المدنية، وقد استمرت المعركة وقتًا طويلًا، ويطرح خالد فهمي تساؤلات عديدة تتعلق بالصراع بين القديم والحديث، أو بين العلم والدين.

أستطيع أن أقول بكل تجرد أن ما كتبه خالد فهمي في كتابه البديع (السعي للعدالة)، يستحق القراءة، ليس في موضوعه فقط، وإنما في منهجه ومصادره وفلسفته.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.