الرهانات السياسية على القوة الناعمة العمانية في عالم متغير

13 أكتوبر 2021
13 أكتوبر 2021

د. عبدالله باحجاج

لم أكن أتصور الحصول على إجابات سريعة ومباشرة لمجموعة تساؤلات كنت أفكر فيها قبل إعصار شاهين حول قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على مواجهة إكراهات مصيرية غير مسبوقة، وعالية الضغوطات من قبل الحليفة أمريكا، ومن وراء الكواليس الكيان الإسرائيلي، حيث تخطط له واشنطن لكي يصبح جسما مندمجا في البنية الأمنية والعسكرية في المنطقة، وقائدا مع الهند لتحالف جيوستراتيجي جديد، يضم الدول المطبعة في الخليج، ويتناغم مع تحالفات واشنطن العسكرية والأمنية الجديدة مثل «أوكوس» وترى كل الدول الخليجية نفسها الآن تحت ضغط أمني مرتفع، لكنه مصطنع، لكي تنضم للتحالف الجيوستراتيجي الجديد، وما أظهره المكون الديموغرافي العماني من ملاحم وطنية تاريخية لمواجهة تداعيات شاهين، رغم ظروفه المالية الصعبة، تعطي لمسقط قوة الصمود والمواجهة ربما دون غيرها إقليميا.

ومفهوم القوة هنا، قد سميت بمسماها المباشر «لفظا» في خطاب عاهل البلاد- حفظه الله ورعاه- الموجه للمواطنين يوم الاثنين الماضي، وسنستنطقها- أي القوة ـ «دلالة» وإسقاطها- أي الدلالة- على طبيعة الهوامش التي يمكن أن تعمل فيها مسقط لمواجهة الضغوطات الخارجية، فالخطاب السامي قد اعتبر الملاحم الوطنية دينامية «قوة وطاقة» فعالة لمواجهة الظروف والمتغيرات، وأصل جذورها تاريخيا، وذلك عندما اعتبرها كذلك، أنها امتداد لما بذله أهل عمان من تضحيات على مر العصور، وقد استوقفتني كثيرا التنظيرات التي تحملها كل مفردة سابقة، فلها دلالات متعددة، وهى قوة الوطن الناعمة لمواجهة الظروف والمتغيرات ليست في الأنواء المناخية والكوارث الطبيعية -لا قدر الله- وإنما هي قوة لمواجهة كل الاحتمالات بما فيها السياسية والأمنية، بحيث يتوفر الآن لدى السلطة السياسية العمانية قوة تلوح بها لمواجهة الضغوطات الإقليمية والدولية.

فهبة المواطنون في «61» ولاية للوقوف مع إخوتهم في محافظتي شمال وجنوب رغم الظروف المالية والاقتصادية الصعبة، وجدت فيها كل الإجابات التي كانت تشغلني على الصعيد العماني، مما جعلني أتأمل مجددا في الديموغرافيا العمانية كقوة الدولة المعاصرة، وأعتبرها أكثر تأثيرا واستعمالا من القوة الخشنة في مرحلة دولية حساسة جدا، وغير مسبوقة، وخطورتها تكمن في التلويح بمتغيرات سياسية وجيواقتصادية للدول التي ترفض الأجندات الأمريكية الجديدة، وكل من يحاول دراسة «الهبة» العمانية، سيلاحظ قوتها المستدامة والمتعدية للكوارث الطبيعية والأعاصير إلى الوقوف مع كل أجندات الدولة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.

من هنا، ينبغي تأطير مفهوم «الهبة» حتى تأخذ نطاقها المفاهيمي لكي تصل رسالتها السياسية الآنية، وتترسخ في القناعات السياسية التي ترصد شأننا الداخلي، وبموجبه تتخذ قراراتها، «فالهبة» هي القوة الروحية والمعنوية للمجتمع العماني، وهى تتجسد من أفكاره ومبادئه وأخلاقه المتجذرة، بدليل ما شخصه خطاب عاهل البلاد- حفظه الله-، من أنها امتداد لكل عماني عبر العصور الماضية، فالجيل الحالي هم سلسلة ممتدة للأجيال السابقة، وهم يشكلون تواصلا وانسجاما في هذه المسيرة الإنسانية التي يغلب عليها قيم مثل الإيثار والتضامن والتكاتف، والارتباط بالأرض وامتدادها الوطني مهما اتسع نطاقها بصرف النظر عن قيام الغير بواجبه، فواجب الآخرين لا يسقط واجب الفرد.

وهذا ليس كلاما تنظيريا طوباويا، وإنما هو توصيف للواقع الذي كشفته الملاحم الوطنية، فكل الولايات العمانية انتفضت للوقوف مع أشقائهم في محافظتي شمال وجنوب الباطنية، ولنا في توافد «15» ألف متطوع إلى الباطنة من كل محافظات البلاد لتنظيف منازل المواطنين المتضررة، نموذجا للاستدلال به على وجود القوة الروحية والمعنوية للمكون الديموغرافي العماني، فهذه الآلاف لم تكن نتيجة تعبئة المؤسسات الحكومية الإقليمية والمركزية، ولا وسائل الإعلام الحكومية والرسمية، وإنما هي نتاج التلقائية للقوة الروحية والمعنوية المتجذرة.

وكذلك، هو ليس تنظيريا طوباويا، وإنما توصيفا للواقع، لصور تبرع المواطنين التي لم يسلط عليها أصحاب السوشال ميديا الأضواء، واكتفوا بالترويج والتسويق للشركات والمتبرعين الكبار، كان يستوجب عليهم، التركيز على تبرعات الخيم التي نصبت في الأماكن العامة، وما أكثرها، عندها، ستظهر صور التفاعل التي تخترق القلوب، وتغير العقول، رأيت أولياء أمور بصحبة أولادهم في عرباتهم المتواضعة، ينزلون المواد الغذائية وكل ما يحتاجه المتضررون.. رغم ظروفهم المالية.

وهو كذلك توصيف للواقع، للشباب الذين يستقبلون التبرعات في الخيم من الصباح لليل دون مقابل مالي أو شهادات تطوع أو تكريم مرتقب وفي أجواء حارة، وقد كنت حريصا على زيارتها لأنني ألمس فيهم بوضوح هذه القوة الروحية والمعنوية للإنسان العماني، وكيف تتوارث في جيلنا الجديد بصورة تلقائية؟ وكيف تعبر عن انتفاضتها عندما اشتكت الباطنة رغم ما بينهما من مسافة جغرافية طويلة، كنت أرى هذه القوة بكل الحواس الخمس، وتتأثر بها كل الجوارح، وهذه هي طبيعة القوة الروحية والمعنوية للدولة العمانية جسدته الملاحم الوطنية، وأثرت على الآخرين في الخارج، وستظل حديثهم الأبدي.

ومن المؤكد أن هناك رسائل سياسية كثيرة، ومتعددة الاتجاهات قد وصلت عن القوة الناعمة العمانية، وعن رهاناتها السياسية على وجه الخصوص، وأثناء التفكير في نموذج لهذا النوع من الرهانات، استحضرت الرهانات السياسية المغربية، عندما وجه الملك الراحل الحسن الثاني عام 1979 النداء لشعبه للخروج في مسيرة خضراء للسيطرة على الصحراء بعد قرار محكمة العدل الدولية ينفي السيادتين المغربية والموريتانية للصحراء، فخرجت المسيرة بحوالي «350» ألف متطوع دون سلاح، وهذا دور القوة الناعمة في أية دولة، فعندما لا تتمكن الدول من استخدام قوتها الخشنة، تلجأ للقوة الناعمة لحسم القضايا أو استرداد الحقوق أو ردع عدوان.

وتتوفر في قوتنا الناعمة كل تلكم المقومات الدفاعية السلمية، وهذا رصيد إضافي يمنحنا الثقة في الذات مهما كانت التحديات والإكراهات الإقليمية والدولية، وتحصن قراراتنا من ابتزازاتها ومساوماتها، وقد حان الوقت لتوظيف هذه القوة لخدمة القضايا الوطنية الثابتة، ورغم ذلك، فإنها تحتاج إلى تعزيز من خلال زيادة الإنفاق على الأدوات المدنية، وهذا يحتم مراجعة بعض السياسات المالية، والمراجعة مواتية الآن في ضوء تحسن أسعار النفط التي وصلت إلى أكثر من «80» دولارا للبرميل، وكذلك زيادة موارد الدولة غير النفطية، وقد تناغمت توجيهات عاهل البلاد- حفظه الله ورعاه- في مجلس الوزراء أمس مع مسألة تعزيز القوة الناعمة، وذلك عندما أناط بمجلس الوزراء مسؤولية متابعة قضية التشغيل، وعقد لقاءات دورية بين الجهات الحكومية المختصة والشباب، مركزا على دور المحافظين، مما تعتبر كذلك قضية إقليمية، ونتمنى أن تكون كذلك في مسار التشغيل اللامركزي.

وكما نعلم أن الشباب هم عماد قوتنا الناعمة، واللحمة الوطنية التي تجسدت ميدانيا في الباطنة بـ«15» ألف متطوع، أغلبية أفرادها من الشباب، ويشكلون- أي الشباب- 26 % من إجمالي العمانيين حتى منتصف 2015، كما تمثل شريحة الشباب «15، 29» عاما من أهم الشرائح النشطة اقتصاديا والمنتجة في المجتمع، ومن لغة الأرقام سالفة الذكر، تخرج مطالبتي بضرورة التخفيف من حدية سياسات مالية، ومن الأرقام كذلك وفي ضوء انكشافات قوتنا الناعمة التي صنعت الملاحم الوطنية، نتساءل، كيف سيتم بلورة التوجيهات السامية الجديدة المتعلقة بالشباب؟

التساؤل الأخير يعبر عن هاجس المرحلة الوطنية، وعن أولوياتها، وعن الرهانات على القوة الناعمة العمانية في عالم متغير حتى أصبح يجاهر بانشطارات جغرافية سياسية أو تغييرات جيواقتصادية إذا لم تنصاع الدول للأجندات المعاصرة، ومن يملك قوة ناعمة كما كشفتها الملاحم الوطنية، ومسيرة الباطنة الخضراء 15 ألف متطوع، فلن يخشى من المؤامرات.. الخ.