الرهانات السياسية المستدامة.. لتماسك القوة المدنية في الخليج
كل دول مجلس التعاون الخليجي تعج موازناتها السنوية الآن بفوائض مالية كبيرة، بضعها مليارية ومعلنة، وبصورة تكاد تكون غير مسبوقة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار عودة أسعار النفط والغاز للارتفاع، واكتشافات حقول نفط وغاز ضخمة، واستحداث مصادر دخل جديدة، مثل الضرائب والرسوم.. الخ وهذا يجعلنا نقف على حجم السيولة الضخمة التي تئن بها الخزائن الخليجية الآن، كما لو نظرنا لمستقبلها المالي والاقتصادي فسنجده أكثر تفاؤلا واطمئنانا، حيث يتم صناعته بمصادر مستدامة ومضمونة، كالطاقة النظيفة، وبمشاريع اقتصادية عملاقة، مما يدفع هذه الدول إلى التفكير في قضية تماسك قوتها المدنية بعد تبني مجموعة سياسات مالية وإصلاحات مؤلمة اجتماعيا بسبب الأزمتين المالية والصحية، وإطلاق الحريات المدنية، يؤثر سلبا على تماسك القوة المدنية لكل دولة مع التفاوت حتى الآن.
واستمرار السياسات والإصلاحات رغم انتهاء الأزمتين، واستعادة الدول الخليجية قوتها المالية، ينظر إليه من حيث التطبيق على أنه تبنٍ للمفهوم الغربي للدولة في الخليج، فهل وراءه إرادة سياسية؟ كل ما يمكن قوله باطمئنان الآن أن السياسات المالية والاقتصادية وعملية إصلاح المجتمعات التي تتخذ منذ ثلاث سنوات، تؤسس المفهوم الغربي في الخليج، فهل يصلح هذا المفهوم داخل المنطقة الخليجية العربية؟ بإعمال الفكر، لا يمكن توطين هذا المفهوم خليجيا كما هو سائد في الغرب، فلن يتناغم مع طبيعة أركان الدولة الأساسية في الدول الست، وبالذات مع ركن السكان، فشعوبها تشعر بأنها الأسبق وجودا من الدولة ككيان سياسي، وأنها صاحبة الأرض التي تقيم عليها الدولة الحديثة، وأنها قبلت بالدولة كقوة قانونية وسياسية لدواعي الاستقرار والسلم الاجتماعي، ولدواعي تنظيمهم كي تساعدهم على البقاء وتحقيق التنمية.
ورغم قيام الدولة في الخليج، فإن كل فرد وجماعة لا تزال محتفظة بشعورها المتجذر، وتظهر وكأنها لم تغادر تاريخها القديم، فلم تعمل الدولة الحديثة على ذوبان الفرد والجماعة في إطار منظومة الحقوق والواجبات التي تحكمها المؤسسات والقانون، فظلت السيكولوجية الاجتماعية غالبة على الوجدانيات والمشاعر، حتى أن بعض المناطق / الأراضي تسمى بأسمائها، لذلك، لا يمكن فصل الديموغرافيا عن الجغرافيا، ولا عن إيديولوجيتها، وإنما هناك إمكانية لتطويرها لتأسيس الدولة المدنية الاجتماعية في ظل الاحتفاظ بعلاقاتها الحميمية للجغرافيا وروابطها السياسية، وأي نهاية لعلاقة الديموغرافيا بالحكومات، سيدخل الاستقرار في مفترقات تاريخية، فالعلاقة بين الجانبين تكفل لها -أي الحكومات- التأييد الشعبي.
وجوهر العلاقة بين الجانبين تقوم على الخدمات الأساسية التي تقدمها الحكومات للشعوب، فكلما تكون مضمونة ودائمة، وفي متناولهم، كلما يعزز ذلك الشق السياسي في العقد الاجتماعي، والعكس صحيح، وهنا التساؤل: كيف إذا ما كانت الخدمات الأساسية مدفوعة الثمن، وينظر لجيوب المواطنين كمصدر دخل لموازنات الدول في ظل الفوائض المالية للدول؟ فهذا يمس جوهر هذا العقد الذي أوضحنا خصوصياته واستثناءاته سابقا.
وهذا المفهوم العميق عن الدولة في الخليج، يختلف شكلا وجوهرا عن مفهوم الدولة في الغرب والشرق معا، من حيث النشأة والحقوق والواجبات، مع التركيز هنا على الحريات تلك التي هناك مطلقة، وهنا مقيدة، فماذا نتوقع من تحويل المقيد إلى مطلق؟ وهذا الفهم يوجه صناع القرار في الخليج إلى الأخذ بعين الاعتبار تماسك القوة المدنية للدولة الخليجية، وذلك عبر الحفاظ على ولاءاتها وانتماءاتها وإيديولوجيتها.
ويطلق على القوة المدنية بالجبهة الداخلية، وأي سياسات أو أي إصلاحات اجتماعية ينبغي أن تنطلق من فرضية التساؤل التالي: ما مدى تأثيرها على تماسك القوة المدنية، وهذا هو المفهوم الأعمق الذي ينبغي أن يحكم المسارات الخليجية المعاصرة، فولاء وانتماء القوة المدنية / الجبهة الداخلية هو غاية السياسات والإصلاحات، لأننا هنا أمام شعور المواطنين بأنهم في بلد يجب الدفاع عنه في اللحظات الصعبة دون تردد، إنه شعور المشاعر والعواطف لكل الجوارح، وهنا الحصانة المتينة التي تراهن عليها الحكومات لمواجهة مشاريع الاختراقات الأجنبية، ومن ديمومة الاستقرار الداخلي.
وهذا الشعور تحتاج إليه الأنظمة الخليجية في مرحلة انفتاحها الاستثماري والفكري.. في ظل قناعتنا الآن بأن الديموغرافيا الخليجية قد أصبح درجة تأثرها بالمخاطر الخارجية عالية أكثر من عام 2011، وأن درجة هذا التأثير ستكون متعاظمة إذا ما استمرت السياسات والإصلاحات التي اتخذت لمواجهة أزمتي النفط وكورونا قائمة، واقتصرت عملية المراجعات على التركيز فقط على الفئات الأكثر تضررا، وهذا النهج يعكس بوضوح المفهوم الغربي للدولة، وقد أتيح لنا فرصة لقاء بعض الكتاب والصحفيين الخليجيين في إحدى فنادق مسقط الجميلة، ولمسنا منهم استياء المجتمعات الخليجية - مع التباين - من الكثير من السياسات والإصلاحات، وهذا يفسر غياب التقدير للقوة المدنية الخليجية، فهي سياسات وإصلاحات برغماتية وراديكالية منطلقاتها مالية خالصة.
صحيح، تجد الأنظمة في الخليج قاطبة نفسها في حقبة زمنية حتمية لإصلاح الدولة والمجتمع معا للانتقال من صناعة الخمسة العقود الماضية التي رسخت الاتكالية الاجتماعية والاعتماد المطلق على الحكومات، ولم تصنع اقتصادا مستداما يحصنها من الأزمات، لذلك، فهي تسابق الوقت في تحديث قوتها الاقتصادية والعسكرية، واستدامة موازناتها، لكن هل ينبغي أن يكون ذلك شرطا وجوبيا لإضعاف قوتها المدنية؟ قد لا تنظر الحكومات لهذه المآلات من حدية الإضعاف، وهنا تمكن رفع الوعي السياسي، ومهما أمنت الدول الخليجية الست تحدياتها الخارجية بعلاقات وشراكات استراتيجية إقليمية ودولية، فإنها بذلك تؤمّن التحدي التقليدي، ورغم أن ذلك غير مستدام، وتتغافل عن التحديات المعاصرة الداخلية والخارجية الصريحة، ولن يستكمل تحصيناتها إلا بالحفاظ على تماسك قوتها المدنية أولا.
وإذا ما كان هناك إصرار على استمرارية السياسات والإصلاحات الراهنة، فإن هذا التطبيق يقسم الدولة في الخليج وفق المفهوم الغربي إلى الثلاثية القطاعية التالية: القطاع الحكومي والقطاع الخاص والقطاع المدني، وينبغي أن تكون قوية ومستقلة حتى تمارس وظائفها داخل الدولة كما يجب، فأي اختلالات في أدوار أحدها سيؤثر على القطاع الذي تشرف عليه، ويبدو هذا أيضا غائبا عن الاهتمامات الحكومية، كما لا يبدو أن قطاع مؤسسات المجتمع سيمكن من ممارسة دوره وفق المفهوم الغربي للدولة، لذلك سيظل هذا القطاع منطقة إكراهات وتحديات للدولة الخليجية، وسيستغل سياسيا وفكريا، وسيكون قابلا للاختراقات، ومصدر إزعاج دائم، لأنه الأضعف داخل كل دولة.
قدر الدولة في الخليج أن يربط استقرارها بتماسك قوتها المدنية، وقدر حكوماتها أن يكون إنفاقها على مجتمعاتها له الأهمية نفسها على الإنفاق الأمني والعسكري، لذلك الفاتورة الاجتماعية ليست تبذيرا أو ترفيها، وإنما ضرورة حتمية، ولما قللت الحكومات الخليجية إنفاقها على المجتمعات منذ الأزمتين النفطية والصحية وحتى الآن رغم اهتمامها بالمتضررين الأكثر، برزت تداعيات فوق السطح، منها عدم الرضا الاجتماعي.. وما تحته أكبر، لذلك لابد من مراجعة سياسية - وليس مالية - للمسارات القائمة وتأثيراتها الاجتماعية، والوقت الآن مناسب للمراجعة في ضوء الفوائض المالية السنوية والمؤشرات التي أوضحناها للتداعيات، فهناك أبواب تفتح دون الوعي السياسي بها، وهي تحصيل حاصل للسياسات والإصلاحات، لذلك يحتم هذه المراجعة، وأن يكون من نتائجها إعادة تصويب مفهوم الدولة عبر أن يكون لها دور اجتماعي رضائي يكون في مستوى كون السكان أحد أركان الدول، فهل المحافظة عليه وتقويته أم التخلي عنه وإضعافه، وجعل مصيره خارج سيطرة الحكومات الخليجية ؟.