الرّحمة وواقع العالم الإنسانيّ ومستقبله
(الهوّيّات ليست حقيقة مطلقة تلغي الآخر، فاختلاف الدّين قائم في جملته على الكسب، وقلّ ما يكون عن طريق البحث والاقتناع)
يعيش العالم الإنسانيّ اليوم في عالم حضاريّ واحد، يتضمّن ثقافات لا تعدّ ولا تحصى، مختلفة في العرق والدّين واللّغات والعادات والفنون والأعراف وغيرها، هذه الحضارة تقوم على قيم مرتبطة بالإنسان، ومنها قيمة الرّحمة، وأرها تتجسد بنائيّا حول ست أسس مهمّة في نظري.
الأساس الأول: الإقرار بالجانبّ التّكوينيّ والكسبيّ في الاختلاف، ومصداق هذا في القرآن الكريم: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 – 119]، فالاختلاف شيء طبيعيّ، وعلى هذا تتمثل الرّحمة في أرقى صورها في حبّ الآخر ورحمته، ابتداء من ماهيّته وكرامته الإنسانيّة، مستغرقة الاختلاف معه لكونه حالة إنسانيّة طبيعيّة، فتتمثل قيمة الرّحمة في: "حبّ لأخيك ما تحبّه لنفسك"، والأخ كما يقول عليّ بن أبي طالب [ت 40هـ]: "إمّا أخ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق".
وعلى هذا الهوّيّات ليست حقيقة مطلقة تلغي الآخر، فاختلاف الدّين قائم في جملته على الكسب، وقلّ ما يكون عن طريق البحث والاقتناع، فتتشكل الرّحمة لكونك ولدت في بيئة جعلتك تكسب دينا ومذهبا تنمو معه، وتتمسك به، فكذلك الآخر، ولهذا يقرر القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
فلمّا تنظر إلى المتفق والمختلف معك من حيث الماهيّة، تنظر إليهم بعين واحدة، هي عين الرّحمة القائمة على المساواة والكرامة الإنسانيّة، فتخدم الآخر وتعدل معه وتساعده وتكون عونا له، مجسّدا هذه الرّحمة عمليّا باعتباره إنسانا له كرامته مثلك تماما.
وما ينطبق في الدّنيا ينطبق في الآخرة، {وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95]، فالقرآن يقرر فردانيّة الجزاء، وهو بيد الله وحده، والله مطلق العدل والرّحمة، عالم بعباده، رحيم بهم، وجميع البشر أبناؤه، وإن اختلفوا في طريقة الوصول إليه، إلا أنّهم يقرون به وبوجوده.
والأساس الثّاني: أساس التّعارف، لأنّ الاختلاف ثمرة ينتج عنها متعة ولذة التّعارف، وكما أنّ الاختلاف التّكوينيّ والكسبيّ يثمر عنه التّعايش من جهة، أي العيش المشترك في بناء الأرض وعمارتها، فكذلك يثمر عنه التّعارف من جهة أخرى كما يقرر القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
والتّعارف في جملته تعرّف على الآخر واعتراف به، فكما تسعى في التّعرف عليه فأنت تعترف به وباختلافه معك، وهذا يقودنا إلى التّعرف على المختلف، ويكون عن طريق اللّقاء والحوار والاجتماع والخلطة، مشروط باحترام الآخر ومقدّساته ورموزه وطقوسه، ومن مصاديق ذلك في القرآن الكريم: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 64]، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
وهذا تجسيد للرّحمة ليس على مستوى الأفراد فحسب؛ بل على مستوى دور العبادة من كنس وكنائس وأديرة ومساجد ومعابد، بجانب المؤسّسات العلميّة والثّقافيّة، حيث تجسّد رحمة الآخر ليس كنظرة عاطفيّة عابرة معه، بقدر ما هو مشروع قائم على استيعاب الآخر والاقتراب معه، والاندماج ليس بمعنى إلغاء هوّيّته، وإنّما الاندماج القيميّ المرتبط بالماهيّة؛ لأنّها قيم واحدة، فيتركون في تجسيد هذه القيم الإنسانيّة في خدمة الجنس البشريّ، وتكون هوّيّاتهم المختلفة دينيّا ومذهبيّا وثقافيّا منسجمة في هذه الوحدة البنائيّة للعالم الإنسانيّ، وبه تتجسّد الحضارة الإنسانيّة العالميّة الواحدة.
والأساس الثّالث: وهو النّاتج من سننيّة الاختلاف، وسنّة التّعارف، أي يقود إلى أساس البناء الإنسانيّ المشترك، الّذي يحدّ من الصّراع والتّطرف الدينيّ والسّياسيّ والأثنيّ العرقيّ، انطلاقا من الفردانيّة الوجوديّة فالمواطنة فحقوق الإنسان، حيث النّظرة إلى الإنسان لكونه ماهيّا مكرما في ذاتيّته، وملازما له وجوديّا لا ينفصل عنه بأيّ حال، وعلى هذا تبنى المواطنة على أساس الشّراكة الإنسانيّة في بلد قطريّ ما، والدّساتير منطلقها القيم الكبرى الحافظة لهذا الإنسان بعيدا عن أيّ انتماء له، فالدّولة القطريّة وإن كانت بذاتها هوّيّة، إلا أنّ هذه الهوّيّة مبنيّة إنسانيّا من جهة، وحافظة لجميع الأفراد باعتبار المواطنة القائمة على قيمة المساواة والكرامة الإنسانيّة.
وكما أنّ لكلّ دولة قطريّة هوّيّات انتمائيّة، إلا أنّها ليست حاكمة على المواطنة، وإنّما المواطنة حاكمة عليها، ليس بمعنى الإلغاء، وإنّما الحفاظ عليها بما يخدم الجميع على حدّ سواء، وهنا تتجسّد الرّحمة في المواطنة المرتبطة بقيم المساواة والعدل على اعتبار القيمة الإنسانيّة الواحدة للفرد، فلا يشعر المختلف لونا أو قبيلة أو مناطقيّة أو ولادة أو دينا أو مذهبا أو لغة بالغربة في هذا الوطن، بل يشعر بالانتماء الحقيقي لكونه إنسانا يشمله قانون واحد لا يفرّق بينه وبين غيره.
وعلى هذا، هذه المواطنة لا يوجد فيها أقليّات في الجانب العمليّ والانتمائيّ، ولكن يوجد أقليات بالاعتبار المعرفي والدّراسي الإحصائيّ فقط، ولكن إذا خرجنا إلى جانب الدّولة والمواطنة خرجنا إلى المواطن الفرد المنتمي إلى هوّيّة قطريّة واحدة، لا إلى المواطن المنتمي إلى هوّيّات أخرى وإن كثرت عددا، فالمسيحيّ في الدّول القطريّة ذات أكثريّة إسلاميّة ذاته كالمسلم في دولة قطريّة ذات أغلبيّة مسيحيّة، في مقام الدّولة يشعران معا بالانتماء الوطنيّ الإنسانيّ الواحد، وبهذا ينكمش ويذوب الصّراع الانتمائيّ تحت أيّ مظلة دينيّة أو مذهبيّة أو عرقيّة.
وهذا الحال ذاته لمّا نتجاوز الدّولة القطريّة إلى عالم وحضارة الإنسان، والمتمثلة اليوم في وثيقة حقوق الإنسان، وهي أرقى ما توصل إليه العالم الإنسانيّ في تأريخه، فحقوق الإنسان واحدة في العالم أجمع، إلا أنّ التّصرفات والأطماع السّياسيّة السّلبيّة من جهة، والمصالح الدينيّة والثّقافيّة البرجماتيّة من جهة أخرى تحول دون تحقق ذلك، وعليه لابدّ أن يستقل العقل الدّينيّ والثّقافيّ بعيدا عن تصرفات السّاسة السّلبيّة، والمصالحيّة النّفعيّة الضّيقة، بحيث يكون هذا العقل خادما للإنسان كإنسان في أيّ بقعة يعيش فيها.
كما أنّ جميع الدّول في العالم هي دول إجرائيّة تنظيميّة لتحقيق إنسانيّة الفرد، وهذا لا يتحقق إلا بوجود منظومة عالميّة إنسانيّة متحدة تقوم على استقرار الدّول وإحيائها وتنميتها، لأنّ نماء أيّ دولة في العالم وإحيائها؛ هو نماء وإحياء للعالم أجمع، كانت في الشّرق أم في الغرب، ودمارها وخرابها هو دمار وخراب للعالم أجمع أيضا، {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
والأساس الرّابع: يتمثل في الجانب القيميّ والأخلاقيّ؛ لأنّ جوهر القيم والأخلاق في العالم واحدة، وعلى هذا تبنى الأمور الإجرائيّة لأنّها لا تخرج عن الظّرفيّة الزّمكانيّة، وكما أنّ العالم عليه أن يتجاوز الجوانب الإجرائيّة الماضويّة، لكونها جاءت وفق ظرفيّتها، إلا أنّ روح هذه الأحكام الإجرائّية واحدة، والأديان حفظت العديد منها، فنحن ندور مع هذه الرّوح وفق عالمنا اليوم، وروح وجوهر وقيمة الرّحمة لابدّ أن تكون حاضرة في هذا الجانب.
وعلى هذا يترتب الأساس الخامس: وهو الجانب التّشريعيّ المتمثل في التّشريعات الدّستوريّة والشّرطيّة والجنائيّة والتّعامليّة والأسريّة وغيرها من الجوانب القانونيّة، فهذه في غالبها أمور إجرائيّة، والأمور الإجرائيّة ظرفيّة، بيد أنّ القيم مطلقة، وعليه الظّرفيّ يدور وفق القيم المطلقة لا العكس، حتّى لا يحكم ويقيّد المطلق بالظّرفيّ، ومدار هذا الإنسان ذاته، وعليه لا يجوز فصل الجوانب الإجرائيّة عن الأنسنة، وإلا سندخل عالم آخر يعوق حركة تطوّر الإنسان، وتحقيق كرامته ومكانته.
وعلى هذا يكون الأساس السّادس: وهو الأساس الاستثماريّ، أي أنّ التّعدديّة أيّا كانت في ذاتها حالة نافعة للجنس البشريّ ككل، لا يقتصر عند الجانب الجماليّ فحسب، بل يمتد إلى الجانب النّفعيّ للعالم أجمع، كما أنّ تدافع هذه الهوّيّات المختلفة تدافعا طبيعيّا استثماريّا يؤدي إلى تهذيبها وتطوّرها بمقدار ما تقدّمه من خدمة للجنس البشريّ عموما.
فعالم اليوم لم يعد يتحمل تلك الزّاوية الضّيقة، بل أصبح عالما منفتحا على الآخر، وطبيعة الإنسان قائمة على ذلك، فعلينا أن نحقق الرّحمة الواسعة للكل، فكما أنّ رحمة الخالق وسعت العالم أجمع، لنعيش فوق أرضه، ونستظل بسمائه، ونستنشق هواءه، ونتمتع بخيراته، فلا أقل أن نجسّد هذه الرّحمة واقعا بتحقيقها بين الجميع؛ لأنّ ماهيّتنا واحدة، وهوّيّانا نتيجة لاختلاف هذه الحياة، وتنوعها، كالبستان المحتوي على شجر وثمر مختلف، ويسقى بماء واحد، وينبت في تربة واحدة، فكذلك نحن معاشر البشر: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17].
وعلى هذا نمايز بين الحضارة والثّقافة، فالحضارة أقرب إلى الماهيّة؛ لأنّها قائمة على الإنسان والعقل والبحث، منطلقة من القيم المنبثقة من الجانب الوجوديّ، والثّقافة مبنيّة على الهوّيّات الكسبيّة، فتتحاور الثّقافة منطلقة من قيم الحضارة لا متصارعة معها، وبهذا نهيئ جوّا حضاريّا إنسانيّا يبنى على قيم الرّحمة والمساواة والعدل، هذا الجو في ذاته بئية خصبة للجيل القادم ومستقبله، ليتجاوز الماضي إلى الحاضر، والصّراع إلى البناء، والبغض إلى الحبّ، والهوّيّة إلى الإنسان.
• كاتب عماني مهتم بقضايا التقارب الإنساني ومؤلف كتاب "فقه التطرف".