الـرأسمـال والسـيادة
إذا كان يسـع عامـل الحـرب أن يكـون سببا في إسـقاط السيادة الوطنيـة هنا أو الانتـقاص منها هناك أو انتهاكها هنالك، فإنه يسـع العامـل الاقتصادي أن يفضي إلى النـتائج عيـنها، ولكن من غيـر عـنف دمـوي وقـتـل وتدمير كما تفعـل الحرب. نعم، قد يحتاج الغـزو الاقتصادي إلى غـزو عسكري يمـهد له المسالك، ولكنـه حين يقع وتسري أحكامـه، لا يترك وراءه آثارا دمـويـة كمثل آثار الحروب، وإن كانت أضراره لا تـقـل إيـلاما، أحيانا، عن تلك التي تـولـدها الحروب... وفـقـدان الدولة سيادتها على مقـدراتها وعلى قـوتها ونظامها الاقتصادي ووقوعها والمجتمع في شراك التـبعيـة الاقتصادية للأجنبي واحـد من هاتـيـك الأضرار الموجعة؛ وهـل من إيـجاع أسوأ من فقـدان سيادة مجتمـع على معاشه؟؛ إذ ليس بعد السيادة غير العبوديـة.
لم يكن قـد استتـب الأمـر لفكرة السيادة الوطنيـة فصارت معتـقـدا سياسيـا وحـرما لا يـقبل الانتهاك (= منذ وقـع إقرارهـا بوصفها مبـدأ حاكما للسياسات بين دول أوروبا في «معاهدة ويستـفاليا»)، حتى بـدأ ينـمو في أحـشاء مجتـمعات أوروبا جـنين تحـولات ستـضع - في ما بعـد- سـؤال السيادة موضـع تعـديـل. كان مـبدأ احترام السـيادات الوطنيـة قـد أثـبت نجاعـتـه في ذلك الإبـان (= النصف الثاني من القـرن السـابع عشر)؛ ليس فقط في وضع فصـل ختامي لـمآسـي الحروب الدينـية - ومنها حـرب الثلاثين عاما-؛ ولا فقـط في تمكين الدولة الوطنيـة - حديثـة الميلاد لحظتئـذ - من النـمو الداخـلي في مناخ من رسوخ الأمـن الاجتماعي والأمـن الخارجي الباعث على تنمية ديناميـات التـطور...، بل هـو - فـوق ذلك كلـه - أثـبت نجاعتـه في ابتـناء سلام - مـديـد نسبيـا - بين الدول الأوروبيـة استفادت منه الأخيرة في دخولها العصر الصناعـي الحديث. لكـن جديدا طرأ على مناخ الانتقال نحو الثـورة الصناعية، هـو: بداية توسـع نطاق علاقات الإنتاج الرأسماليـة؛ وهـو الجديد الذي ستكون له نتائجـه التي أعادت وضـع فكـرة السيادات في حدودها النسبيـة؛ هذه التي كانت خارج الأفـق الذهـني للفكـر السياسي الأوروبـي ولسياسات الدول منذ سبعيـنـات القرن السادس عشر- حيث نظـر جان بـودان لمسألة السيادة - إلى منتصف القـرن السابع عشر غـداة إبرام معاهـدة ويستـفاليا.
لم تكـن بلدان أوروبا قـد عاشت، جميعـها، تجربة الانتقـال إلى النظام الرأسمالـي على النحـو عـينه؛ فالأغلـب الأعـم منها لم يشهد على تطـور قـاد إلى تفكيك نظام علاقات الإنتاج الإقطاعية وتقويضه. حصل ذلك، تحديدا، في بريطانيا التي كانت، إبـانئـذ، المركز الاقتصادي المتـقـدم في أوروبا. ثم ما لبث أن انتقـل نظام الإنتاج الرأسمالي منها إلى بلدان أخرى (فرنسا، هولندا، ألمانيا، إيطاليا...) على نحو كان الأثـر الخارجـي في ذلك الانتقال يوازي - وأحيانا يجاوز- الأثـر الداخلي المتمثـل في عمليـة التـطور الذاتـي في كـل بلـد. ولقد أخذت عمليـة التغـلغل الرأسمالي زمنـا طـويلا في معظم أوروبا حتى أصبح في إمكان علاقات الإنتاج الرأسماليـة الجديدة أن تسيطر فتـخضع العلاقات الإقطاعيـة لها أو تفـكـكها كـليـة.
سدد الرأسمال، إذن، ضربـة لفكرة السيادة بما هي استـقلال مطلـق، أو بما هـي كفايـة ذاتيـة للدولة تجعلها مستغنية عن غيرها. نعم، كانت فـكرة التعاون بين الدول شائعة منذ القديم، بل زادت فـشـوا وازدهارا في العصر الحديث؛ وكانت تقاليـد التعاون والتبادل قـد تكرست أكثر منذ بداية عهـد التجارة الميركـنـتيليـة، ولكن ما وقـع مع صعود الرأسمال أمـر مختـلف تماما، لأنـه يتعلق بعمليـة زحـف لعلاقاتـه من موطـن إلى موطـن؛ وهـو زحـف لا يستأذن حدودا ولا يحترمها، ناهيك بأنـه الزحـف الذي كانت تتولـد منه نتائج بعيدة الأثـر في البنية الاجتماعيـة التي تنتقـل إليها العلاقـات الرأسماليـة؛ إذ كان على مصالح طبقات اجتماعية أن تصاب بالتدمير من ذلك الزحـف ونتائجه، بل كان على بعضها (= الإقطاع) أن يتلاشى ويختـفي، تدريجيـا، من المشـهـد.
حين نـدرك أن الرأسماليـة - وقـد امتطى اتساع نطاق نفوذها صـهوة الثـورة الصناعيـة في القرن الثامـن عشر- نـزاعـة إلى التـمدد خارج حدودها، باستمرار، وأنها تجـب ما قـبـلها فتصـيـره عـدمـا أو في حكم العـدم وكأن لم يكن، ندرك إلى أي حـد بات يـمكن العلاقات الإنتاجيـة الجديدة أن تخلـقه من الوقائع نظيـر ما تخلـقـه الحروب، فتفرض على فـعـل السيادة تواضعا موضوعيـا في تحقيق نفسه، أي تفرض حدودا لتلك السيادة وقـدرة نسبيـة على ردع ما يتهددها بالاختراق أو الاستباحـة. والمثير أن انتقال علاقات الإنتاج الرأسماليـة تلك من مـركـز إلى أطراف أوروبيـة (ثم إلى شمال القارة الأمريكيـة) لم يكن، دائمـا، أحادي الجانب أي بفعل فاعـل هـو البلد المصـدر، بل كثيرا ما حصل من طريق التـقـليد والاستلهام والمحاكاة؛ بل لقـد كان هذا هـو الغالب عليه في ابتداء أمـره. ولم يكن في هـذا ما يستـغرب له، ولا ما يـعـد شذوذا عن القواعـد؛ فأوروبا مجـال جغرافي واحـد يمثـل الجـوار المتعـدد أخص سماته؛ حيث نـدر أن وجـدت فيه دولـة ليس على حدودها أكثر من دولة. ولا مـريـة في أنـه في مثل هـذا النـوع من الجـوار المتعدد تكتسي التـفاعلات البيـنيـة أبعادا من الانفتاح هائلة لا يمتكن أمرها في أنواع أخرى من الجوار غير المتعدد. وهذا ما يفسـر لماذا انتقلت ظواهر عـدة في أوروبا من مـركز واحد، أو مـن مراكـز قليلة، (مثل الثـورة العلميـة، أو حركات التوحيد القومي، أو العقلانيـة، أو الثـورات السياسيـة، أو الحداثة...) بحيث صارت أوروبيـة تشارك في صناعتها مجتمعاتها كافـة.
سيقع المنعـطف في السيادات الأوروبيـة بعد أن استتب الأمـر للنظام الرأسمـالي في مجتمعات غـرب أوروبا، فتكـونت بنتيـجته رأسماليات قوميـة دخلت في حـال من المزاحمة بينها، في طـور من التـطور هـو طـور المنافسة الحـرة من النظام الرأسمالي. لم تكـن المنافسـة، في حـد ذاتها، ضـربا للسيادات غير أنها ستـمهـد - عند درجـة من احتدامها - لولوج دول أوروبا حقبة الصـراعات على النـفوذ: حقبة الاحتكار وميلاد الإمبـرياليـة؛ وهـي التي سيتحـطم معها مبدأ السيادة بعد أن عاشت فيه بلدانـها لـما يزيد عن قرنيـن ونصف القرن لتدخل أوروبا، بعد ذلك، حقبة أزمـة نموذج الدولـة الوطنيـة فيها.