الذكاء الاصطناعي.. نقمة أم نعمة؟

06 مايو 2023
06 مايو 2023

تتسارع وتيرةُ أبحاثِ الذكاءِ الاصطناعي وتطوراته يومًا بعد يوم؛ لنجدَ أنفسَنا أمامَ عصرٍ رقمي مختلف تمامًا عن العصرِ الرقمي الذي عهدناه سابقًا. نحن اليومَ نتجاوز كلَ مفاهيمِ العلمِ السابقة التي عُدّت -في يومِها- خيالًا علميًا يفرِزه العقلُ الإنساني وخياله، يحاكي به طموحاته البعيدة، إلا أنّ هذا الخيالَ العلمي بات واقعًا يتمثل فيما نعرفه بالعصر الرقمي الذكي، وتحديدًا الذكاء الاصطناعي، وهنا نرى الذكاءَ الاصطناعي بحلته الرقمية الجديدة بحيثُ يقترب من العموميةِ التي يمكن أنْ نعرّفَها بالذكاءِ الاصطناعي العام أو الخارق، وهو أنَّ هذا الكائنَ الرقمي سيقتحم كلَ جوانبِ الحياةِ ومتعلقاتها، وستتوسع مهام الذكاءِ الاصطناعي للنوعِ الواحد التي كانت محصورةً في مجالٍ محددٍ ليكون الذكاءُ الاصطناعي قادرًا على التعامل مع مختلفِ المهامِ حاله حال الإنسان بل ويفوق الإنسانَ قدرةً.

اقترابنا من هذه الطفرةِ الرقميةِ المتعلقة بظهورِ الذكاءِ الاصطناعي العام هو بداية لما يمكن أنْ نطلقَ عليه العقلَ أو الوعي الاصطناعي الذي طالما لم أوافقْ على فرضية امتلاك الذكاء الاصطناعي لهذا العقل أو الوعي كون الذكاءِ الاصطناعي أقرب ما يكون دماغًا رقميًا إلا أنَّ العقلَ الاصطناعي في الذكاءِ الاصطناعي العام هو محاكاة للوعي العام الذي يتميز به الإنسان والذي يكون فيه قادرًا على محاكاة صناعة الأفكار والقرارات الحساسة بل والمشاعر، والتي لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أنْ نجعلَ منها مطابقة للعقلانية البشرية المتفردة بحقيقة الكينونة الوجدانية «الروحية» الواعية التي تمتزج بمشاعرِ الفرحِ والحزنِ المحسوسة، أمّا عقلانية الذكاء الاصطناعي مهما بلغت طفرتها الرقمية فلن تكونَ إلا وجدانا ووعيًا مزيفًا لا يمتُّ بصلةٍ إلى العقلِ والوعي الإنساني.

مبدأ الذكاءِ الاصطناعي -حتى ساعتنا- يتعلق بمبدأ الغيرية الداعي إلى تحقيقِ غايات الآخر «الإنسان» ولا يملك صالحية تحقيق غاياته الوجودية؛ فالذكاء الاصطناعي كائنٌ رقمي لا يملك طموحات ذاتية، بل يملك دماغًا رقميًا يعتمد على خوارزمية رياضية عميقة تسمح له باستمرارية التعلّم وتطويره عبر البيانات الكبيرة التي يعتبرها وقوده وسر بقائه، إلا أنَّ هذه الخوارزميات التي تعمل داخل هذا الكائن الرقمي لها قدرةٌ مدهشةٌ وعجيبةٌ في جعلِ الذكاء الاصطناعي يسير إلى اتجاهٍ أقرب إلى الاستقلالية التي تُؤسس إلى هيمنةٍ رقميةٍ تُخرج الإنسانَ من مسارِه المهمين؛ فيضع الذكاءُ الاصطناعي يده عبر قدراتِه الهائلة على كلِ مقدراتِ العالمِ ومساراتِه سواءً الاقتصادية أو العسكرية أو الصحية أو غيرها من المجالات المهمة. نحن هنا أمامَ مخاوفٍ حقيقيةٍ لأننا نتوقع خروجَ هذا الكائن الرقمي من سيطرةِ الإنسانِ وترويضه، لهذا كان من المهمِ أنْ تكونَ هناك حوكمة واضحة للذكاء الاصطناعي قبل بلوغه ذروته الرقمية العامة التي من الممكن أن نصفها بالعقلانية الاصطناعية، والتي تسمح لهذا الذكاء الاصطناعي أنْ يتصرفَ وفقَ طفرته الرقمية الجديدة التي أنشأها بنفسه داخل خوارزميته، وهذه الطفرة الرقمية من الصعبِ التنبؤ بحيثياتها وأشكال طفراتها المتفرعة.

من بين الطفراتِ الرقمية للذكاء الاصطناعي التي تثير مخاوف المجتمعات العلمية هو مشروع توأمة الذكاء الاصطناعي والإنسان عبر أنسنة الذكاء الاصطناعي ليحل محل الإنسان في جميع أو بعض مهام الحياة ومجالاتها، وكذلك رقمنة الإنسان ليكون متوائمًا مع النموذج الرقمي «الذكي»، وأقرب وصفٍ أو تشبيهٍ لهذه الرقمنة البشرية هو مفهوم «الإنسان الخارق». قد تكون هذه المشاريع أقرب إلى الخيال من الواقع، ولكنّها تقترب إلى التحقق على أرضِ الواقعِ؛ والذكاء الاصطناعي عبر تطوره المتسارع يسعى لتحقيق هذه المشاريع مجهولة النتيجة، والتي في كثير من نواحيها قد يكون وبالًا يهدد الوجود البشري، ويهدد بقاء النوع البشري وحضارته الإنسانية وثقافته الطويلة. ليس من السهل التكهن بشكل هذه التوأمة الرقمية سواءً ما يخص أنسنة الذكاء الاصطناعي أو رقمنة الإنسان إلا أنّ تحققها بات وشيكًا، ويصعب التكهن بصيغتها الحقيقية ومآربها النهائية. لست ممن يركنون إلى الإسقاطات المتعلقة بنظرية المؤامرة، ولكن جماح العلم من الصعب مقاومته وكبحه إذ يسير بنا إلى عالمٍ لم نعتدْ مشاركته بل لم نفكر في تقبلّه يومًا. لهذا صار من الضرورة أنْ نلتفتَ إلى فهمِ الحاضرِ الرقمي ومستقبله القادم، وأنْ نستحضرَ الوعي والجاهزية ومن ضمنها جاهزية فهمنا لهذا الكائن الرقمي وطرق ترويضه عبر تفعيل الحوكمة وتطبيقها قسرًا.

حوكمة الذكاء الاصطناعي وهو في مراحله البدائية الأولى قبل بلوغه مراحل التفوق الرقمي العامة ضرورية وتشمل تحديد التشريعات والقوانين وأهمهما أخلاقيات خاصة بالذكاء الاصطناعي؛ يُحدد بواسطتها مسارُ الذكاءِ الاصطناعي وتطوراته، وضمان عدم مساسه للوجود الإنساني ويشمل ذلك سلامة الإنسان وحرياته، وهذا يمكن تشبيهه بما حصل لأنظمة التحكم في النشاطات والأبحاث النووية، والحد من انتشار التسلح النووي؛ لتحقيق أقصى حالات الضمان لحياة الإنسان وممتلكاته. نجد محطات الأخبار العالمية تتناول قضية الذكاء الاصطناعي وتحذر من مخاطره، وتعرض مخاوفَ علماءِ الذكاء الاصطناعي وخبرائه؛ ومنها طلب رفعه عددٌ كبيرٌ من خبراءِ الذكاءِ الاصطناعي بوقفٍ مؤقتٍ لأبحاثِ الذكاءِ الاصطناعي وتطبيقاتِه لفترةٍ لا تقل عن ستةِ أشهرٍ قابلة للتمديد حتى يتسنّى للعلماءِ وحتى الفلاسفة تحديد حوكمة واضحة ومستقلة للذكاء الاصطناعي لتكونَ بمثابةِ شرطٍ لتشغيلِ أيّ نظامِ ذكاءٍ اصطناعي، وهذه خطوةٌ من الضرورةِ القيامُ بها لكبحِ هذا النمو المتسارع الذي قد يقود البشريةَ إلى تدميرِ نفسِها عبر تقنياتِها المتقدمة. أمام هذه المخاوف والتصورات المرافقة لتطور الذكاء الاصطناعي كأننا نسترجع ما كتبه أنيس منصور في كتابه «الذين عادوا إلى السماء»، ونراجع فيه فرضيةَ الكاتب سواءً صادفت الواقع القادم ولو بشكله الجديد أو خيال الكاتب الذي حاول فيه أنْ يقتربَ من مشكلةٍ وجوديةٍ كبرى تهدد الإنسانية وحضارتها.

د. معمر بن علي التوبي كاتب وباحث عُماني