الذكاء الاصطناعي موضوع أخلاقي
ينقسم تقرير (مؤشر الذكاء الاصطناعي للعام 2022) الصادر عن وحدة الذكاء الاصطناعي المرتكز على الإنسان، في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، إلى خمسة فصول؛ يحدثنا الأول عن (البحث والتطوير) في مجال الذكاء الاصطناعي الذي واجه خلال العام الماضي مجموعة من التحديات والمتغيرات خاصة على المستوى الجيوسياسي، وتصاعد تلك التوترات التي حدثت خاصة بين الولايات المتحدة والصين، إلاَّ أنه -أي التقرير- يؤكد أن التعاون بين البلدين في مجال الذكاء الاصطناعي والعمل البحثي بينهما ما بين( 2010- 2021 ) قد حقَّق زيادة تُقدَّر بـ (خمس مرات... إذ أنتج التعاون بين البلدين منشورات أكثر بمقدار 2.7، وهو ثاني أعلى مستوى في القائمة)، في حين واصلت الصين (قيادة العالم) في عدد منشورات المجلات والمؤتمرات والمختبرات التابعة لمنظمة العفو الدولية، حيث حقَّقت أعلى نسبة هي (63.2%).
وكشف التقرير أن عدد براءات اختراع (الذكاء الاصطناعي) المودعة « في عام 2021 أعلى بأكثر من 30 مرة مما كانت عليه في العام 2015، مما يدل على معدل نمو سنوي مركَّب قدره 76.9%»، الأمر الذي يوضح تزايد الاهتمام بهذا المجال من ناحية، ومدى تأثير التحديات الوبائية والبيئية والاجتماعية في تسريع التطوير التقني والبحثي لمجالات استخدام الذكاء الاصطناعي.
يستعرض التقرير في فصله الثاني (الأداء الفني) لأنظمة الذكاء الاصطناعي مقارنة بأداء البشر؛ فقد شهد مجتمع الأبحاث مستوى أكبر بالمهام الدقيقة والفرعية التي يمكن أن تؤديها تلك الأنظمة خاصة في المجالات الطبية، ليخلُص أن الذكاء الاصطناعي«يتجاوز بالفعل مستويات الأداء البشري في معايير فهم القراءة الأساسية بنسبة 1-5%»، من جهة أخرى فإن أنظمة الذكاء الاصطناعي لا تزال غير قادرة على تحقيق الأداء البشري في المهام اللغوية الأكثر تعقيدا مثل (الاستدلال اللغوي الطبيعي الاختطافي (aNLI)، غير أن الفرق بدأ يضيق حتى أصبح منذ بداية العام 2021 (نقطة واحدة) بعد أن كان (9 نقاط) في العام 2019. -حسب التقرير-.
هكذا سيكشف لنا التقرير تلك القدرات التطويرية التي تمت على مستوى العالم في مجال الذكاء الاصطناعي سواء قدرات ما أطلق عليه (التعلم التعزيزي العام)، التي حققت أعلى قدر من الأداء مثل لعبة (الشطرنج) وغيرها، وذلك التطور الهائل الذي تم في مجال (التبني التجاري)، و(الروبوتات) التي أصبحت أكثر تطورا وأقل سعرا.
ولأن (الذكاء الاصطناعي) أحد أهم المجالات التقنية الحديثة ذات التأثير الاجتماعي البالغ الأهمية، فإن التقرير لا يغفل تلك التحديات التي واجهت المجتمع جراء التطور التقني المتسارع في هذا المجال، وهي تلك التحديات التي يستعرضها تحت عنوان (أخلاقيات الذكاء الاصطناعي التقني)، والمتمثلة في (العدالة والمساواة) الاجتماعية؛ حيث كشف أن موضوع (الأخلاقيات) المرتبط بالذكاء الاصطناعي قد كان أحد أهم الموضوعات التي شغلت العالم عموما، وكانت من أبرز المجالات البحثية منذ العام 2014، مع «زيادة خمسة أضعاف في المنشورات ذات الصلة في المؤتمرات المتعلقة بالأخلاقيات، حيث تحوَّلت العدالة الخوارزمية والتحيُّز من كونها سعيا أكاديميا في المقام الأول، إلى أن تصبح راسخة كموضوع بحثي سائد له آثار واسعة النطاق» -بتعبير التقرير- فقد أسهم مجموعة من الباحثين من (ذوي الانتماءات الصناعية بنسبة 71%)، في المنشورات التي تركِّز على الأخلاقيات، مما يدلنا على أهمية تطوير مقاييس العمل في مجال الذكاء الاصطناعي، وإيجاد معايير علمية تستند إلى إحصائيات دقيقة على المستوى التقني والاجتماعي لقياس مدى شمول البرامج والوسائط لأفراد المجتمع من ناحية، ومدى تأثير ذلك على المستوى الاجتماعي لمعيشة أفراد المجتمع.
يكشف التقرير في فصله الرابع نتائج الاستقصاء الذي أعده في مجالات الذكاء الاصطناعي؛ حيث كانت (نيوزلندا وهونج كونج، وأيرلندا، ولوكسمبورغ والسويد)، هي البلدان أو المناطق التي (لديها أعلى نمو في توظيف الذكاء الاصطناعي من العام 2016 إلى العام 2021)، في حين أن الاستثمار الخاص في هذه المجالات قد بلغ في العام 2021 (حوالي 93.5 مليار دولار؛ أي ضعف إجمالي الاستثمار الخاص في العام 2020) -حسب ما ورد في التقرير-، من جهة أخرى فإن عدد الشركات الممولة حديثا يستمر (في الانخفاض، فمن 1051 شركة في العام 2019، و762 شركة في العام 2020، إلى 746 شركة في العام 2021).
وقد تركَّز الاستثمار في الذكاء الاصطناعي في مجالات (إدارة البيانات ومعالجتها)، تلتها (الطب والرعاية الصحية)، و(التكنولوجيا المالية).
يخبرنا التقرير أيضا في مجال (الحوكمة والسياسة التشريعية)، أن هناك (25) دولة قد استحدثت قوانين أو مواد قانونية خاصة بالذكاء الاصطناعي؛ وقد أقرَّت إسبانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة مشاريع قانونية متعلقة بالذكاء الاصطناعي و(اعتمدت كل منها ثلاثة مشاريع قانونية). وعلى الرغم مما يبديه التقرير من تفاؤل في الإمكانات الواسعة التي يمكن أن يشغلها الذكاء الاصطناعي خاصة في مجال الأعمال والبيانات بأنواعها المختلفة، إلاَّ أنه يُلفت الانتباه إلى مخاوف التحديات الاجتماعية والتغيرات التي يمكن أن يُحدثها التطور المتسارع في هذا المجال سواء على مستوى الفرد أو المجتمع.
ولأن سلطنة عُمان واحدة من تلك الدول التي أولت الذكاء الاصطناعي عناية كبيرة خاصة في السنوات الأخيرة التي شهِدت تطورات عدة في هذا المجال، ولعل إعلان (مسقط العاصمة العربية الرقمية للعام 2022) يكون حافزا لتطوير أنظمة العمل في المجال التقني والذكاء الاصطناعي بشكل خاص؛ حيث أطلقت الدولة مجموعة من المبادرات المعنية بالذكاء الاصطناعي، على رأسها (إنشاء البرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة)، الذي يعمل – حسب ما ورد في الموقع الإلكتروني لوزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات – على الإشراف على (إعداد برنامج وطني متكامل للذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة يشمل السياسات والتشريعات وبناء القدرات والبحث والابتكار والتصنيع والاستثمار وتطوير الشركات الناشئة)؛ فهو برنامج متكامل من حيث الرؤية، وقادر إذا ما تم العمل عليه وفق منظور تنموي على المساهمة الفاعلة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة على المستوى الوطني، إضافة إلى تلك الجهود التي تبذلها المؤسسات المعنية في مناقشة وإعداد وتنفيذ العديد من المشروعات والمبادرات الخاصة بـ (جاهزية البنية الأساسية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي)، أو تلك المعنية بمجالات تلك التطبيقات، أو تلك المرتبطة بالبحوث والدراسات والمؤتمرات.
إن أهمية الذكاء الاصطناعي اليوم تزداد وتتعاظم في ظل المتغيرات العالمية المتسارعة، والتي تكشف عن تطورات على المستويات العلمية والاجتماعية والثقافية والبيئية، ولهذا فإن العمل على إيجاد تطبيقات وتطوير بنية منظومة الذكاء الاصطناعي وسياساته، يجب أن لا تكون في معزل عن أهميته التنموية من ناحية وتأثيراته الاجتماعية من ناحية أخرى؛ ذلك لأن تلك الأهمية وذلك التأثير يرتبطان بقدرة أفراد المجتمع على تقبُّل التطور المعرفي المرتبط بالتقنية عموما والذكاء الاصطناعي خصوصا، ووعيهم بأهمية ذلك في تطوير أنماط حياة المجتمع، ونمو أعماله، وقدرته على التفاعل البنَّاء مع التطورات المختلفة. ولهذا فإن التطور المعرفي المرتبط بالذكاء الاصطناعي عليه أن يكون متوازن وعادل بين فئات المجتمع، بحيث يكون قادر على الوصول إلى أكبر قدر ممكن من أفراده أينما كانوا، وإلاَّ فإن هذه المنظومة ستٌحدِث تحديات اجتماعية مستقبلية خاصة على مستوى (العدالة) و(المساواة) بين أفراد المجتمع وبالتالي الحقوق الإنسانية.
إن التطور التقني في أنظمة الذكاء الاصطناعي يُسهم مباشرة في تطوير المنظومة الاجتماعية إذا ما تم صياغة أهدافها وفق مفاهيم اجتماعية، تُسهم في دعم قدرات أفراد المجتمع، وتنُظِّم تفاعلهم مع التقنية بطريقة إيجابية، قادرة على تحقيق الأهداف التنموية، ولهذا فإن ما نشهده من برامج تدريبية فاعلة ومهمة على المستوى الوطني في مجال تطوير هذه التقنيات وإيجاد وسائل جديدة وتطبيقات إنمائية تُسهم في تفعيل دور الذكاءات في مجال الأعمال بشكل خاص، عليها أن تكون أيضا من جهة أخرى مسهمة في دعم (أخلاقيات الذكاء الاصطناعي) على المستوى الاجتماعي؛ ذلك لأن هذا المجال يُعد من أُسس التنمية التقنية التي يمكن أن تؤسس أنماط معرفية واجتماعية قادرة على المساهمة في دعم الوعي المجتمعي.
ودعما لما تقوم به الدولة في مجالات الذكاء الاصطناعي، وما نهدف إليه جميعا من خلال الرؤية الوطنية عمان 2040، فإن علينا على المستوى العلمي والأكاديمي بشكل خاص، إعداد تلك الدراسات والبحوث العلمية التي تنهض بالمستوى التقني والمعرفي في هذا المجال، سواء تلك الدراسات المعنية بالتطبيقات وتوسعة مجالاتها سيما المجالات الاجتماعية والثقافية والإعلامية، أو تلك المتخصصة في السياسات والتشريعات، أو أخلاقيات العمل التقني.
إن مجال الذكاء الاصطناعي ليس مجالا تقنيا أو علميا وحسب، إنه مجال تنموي يشمل قطاعات التنمية المعرفية. إنه مستقبل فلنسهم جميعا مؤسسات وأفراد في دعمه وتطويره في شتى المجالات.