الدياثة وضبابية الإسقاط
لم يرد مصطلح الدّياثة في القرآن الكريم، ولم يتطرّق إليه من قريب ولا بعيد، مع أنّه تحدّث عن المرأة ككائن مستقل من حيث الخلق، ومن حيث التّكليف، ومن حيث الحقوق، فمن حيث الخلق قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً» [النّساء: 1]، فلم يرد في القرآن «إنّ المرأة خُلقت من ضِلْع، وإنَّ أعوجَ ما في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج»، بل يثبت أنّ الرّجل والمرأة سيّان في الخلق من نفس واحدة، وإنّما دخلت قضيّة الضّلع الأعوج من خلال التّثاقف مع الأديان الأخرى من أهل الكتاب، فقد ورد ذلك في سفر التّكوين [الإصحاح الثّاني: 20 – 22]: «وأمّا لنفسه فلم يجد معينا نظيره، فأوقع الرّب الإله سباتا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما، وبنى الرّب الإله الضّلع الّتي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم، فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي، ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة لأنّها من امرء أخذت».
ومن حيث التّكليف فيقرّر القرآن: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا» [الأحزاب: 35]، فجعل القرآن المرأة في الطّقوس والحياة كائنا مستقلّا؛ لأنّ هذا يتوافق مع وحدانيّة التّكليف القرآنيّ، فالعلاقة مع الله مبنيّة على الذّات الواحدة في الحياة أي بمعنى فردانيّة الاتّصال، الّذي به يتحقّق فردانيّة الجزاء، «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا» [مريم: 95]، ولكون المرأة ذاتا واحدة مستقلّة؛ لهذا كان تكليفها مستقلّا بذاتها، غير مرتبط بمخلوق آخر، حتّى ولو كان أبا أو أخا أو زوجا أو ابنا، وإنّما ارتباطها من حيث الذّات بالإله المطلق كذات مستقلّة ومتحركة.
ومن حيث الحقوق فيقرّر القرآن: «وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ» [النّساء: 32]، فهنا إقرار باستقلاليّة المرأة في إدارة ذاتها، وفي حقّها الماليّ والاجتماعيّ كالرّجل تماما، فلها حقّ التّملك والاستثمار والادّخار ككائن مستقل بذاته.
إلّا أنّه من حيث حركة الاجتماع البشريّ، والتّثاقف مع الثّفافات المتنوعة، ونظرتها إلى المرأة، فهذه الثّقافات منها ما تنظر إلى المرأة برؤية أكثر سعة من حيث إنسانيّة المرأة ذاتها، وأحيانا تضيق بشكل تنزل المرأة إلى درجات أقل من درجات الإنسان، كمساواة المرأة بالكلب الأسود مثلًا، وفي هذا تقول عائشة [ت 58هـ] في قطع صلاة الرّجل إذا مرت أمامه امرأة: «قد شبهتمونا بالحمير والكلاب»، فهذا التّثاقف سيدخل في دائرة الدّين، وبالتّالي سيؤثر على دائرة التّدين البشريّ طيلة التّأريخ فيما يتعلّق ما بعد النّصّ الأول، الّذي ستختلف النّظرة إليه اليوم بين من يرى تأريخيّته تحت مظلّة النّصّ الأول، وبين من يرى لاهوتيّته تماما كتلمود اليهود وحاكميّته على التّوراة والتّناخ، أو كقوانين الآباء وتعاليمهم بعد رسل المسيح ابن مريم، وحاكميّتها على الإنجيل أو العهد الجديد بل والقديم أيضا، أو من يرى فيه النّزعة اللّاهوتيّة تجاوزًا لجدليّة حرفيّته وتناقضاته.
ومن هذه التّثاقفات مع العادات والثّقافات الاجتماعيّة قضيّة الدّياثة، كرواية «لا يَدخل الجنّة ديّوث»، فهذه روايات اختلفوا في صحتها وضعفها، ودخل فيها الموضوع باعتراف أهل الحديث أنفسهم، إلّا أنّ رواية عبدالله بن عمر [ت 73هـ] مع الاختلاف في صحتها، وفيها: «والدَّيّوث الذي يُقِرُّ في أهله الخُبْث»، ففيها قيد متزن نوعا ما ربطت الرّوايةُ الدّياثةَ بالفاحشة، وبعيدا عن جدليّة الموضوع لا نجد في هذه الرّوايات ما نراه اليوم من إسقاطات بعيدة، فتزين المرأة وعملها وسياقتها للسّيارة كما في بعض الفترات وخروجها للتّنزه والسّفر ومشاهدتها للتّلفاز وسماعها للموسيقى والغناء وذهابها إلى السّينما أدخل في الدّياثة، وكأنّ المجتمعات اليوم أصبحت ذات دياثة، ثمّ كأنّ المرأة سيئة في ذاتها، إن خرجت وإن عملت وإن سافرت وإن شاركت الرّجل في بناء الأوطان وإصلاحها نظر إليها بسلبيّة وشك، فهذا كلّه تطرّف في الإسقاط، وضبابيّة في الفهومات.
وإن نظرنا إلى الفقه العمليّ سنجد إسقاطات طبيعيّة لحركة المجتمع لم تربط بالدّياثة كما نراه عند من توسع اليوم، فمثلًا في كتاب «منهج الطّالبين وبلاغ الرّاغبين» للشّيخ خميس بن سعيد الشّقصيّ [ت بداية القرن 11هـ]، وهو من الكتب المهمّة في قراءة البعد الاجتماعيّ للفقه العمليّ مثلًا في عُمان، فيقول مثلًا: «وقيل إنّه يجوز النّظر للرّجل من المرأة الوجه والكفان، فظاهر الكف، وظاهر القدم فيهما اختلاف، والّذي يجوز إليه منهنّ يجوز مسّه، وقول: إنّ النّظر أجوز من المسّ»، ولهذا أجاز أغلب المشارقة مصافحة المرأة ولو كانت أجنبيّة له -أي يجوز الزّواج منها- فيقول الشّقصيّ: «والقول في اللّمس لهنّ كالقول في نظرهنّ إذا كان ذلك لغير معنى الشّهوة»، ويقول: «ويجوز للشّاب مصافحة الشّابة إذا كانا واثقين من أنفسهما...»، «وقيل إنّ أبا عبيدة -رحمه الله- مدّ يده إلى امرأة يريد أن يرحبّ بها [أي يسلّم عليها ويصافها]، وهي من أهل الفضل من المسلمات، ولعلّها من الخراسانيّات [أي من أهل خراسان]، فقالت له: نحن نساء لا نرحبّ بالرّجال ولا يرحبّ بنا الرّجال»، أي في ثقافتهم الاجتماعيّة لا تصافح المرأة الرّجال ولا العكس، بينما في ثقافة أبي عبيدة في البصرة أنّ الرّجل يصافح المرأة والعكس صحيح، فلم ينكر أحدهما على الآخر؛ بل احترم ثقافته.
ولم تكن عادة النّقاب وتغطية وجه المرأة سائدا في الفقه العمليّ الإباضيّ عند العمانيين، «ومن كتاب أبي عليّ -رحمه الله- ويقال: ليس على النّساء نقاب»، وذلك لأنّ المرأة طبيعيّا تختلط بالرّجل في السّوق والتّعليم والرّعي والزّراعة، فلا معنى لتغطية وجهها، لهذا كانت أدبيات الخلطة فيها سعة، ولم تربط بالدّياثة، حتّى عند من ضيّق مثلًا، فيقول الشّقصيّ: «وقيل يجوز أن يقعد الرّجل مع المرأة من جيرانه وأرحامه ولو كانت غير ذي محرم منه، ما لم ينظر منها ما لا يجوز أن ينظر منها، وليس عليه أن يقول لها أن تكون وراء الباب، أو وراء الجدار، إذا خشي أن يدخل عليها من ذلك مكروه أو مشقّة، فإن فعلت هي ذلك فذلك حسن تكون خلف جدار أو باب»، «وقال أبو سفيان لقي جابر امرأة من المسلمين، فسلّم عليها، وواقفها ساعة يكلّمها وتكلّمه....».
لا أريد هنا الإسهاب في ذكر النّماذج والإسقاطات الفقهيّة، كانت لها رؤية سلبيّة أم إيجابيّة، إلّا أنّها تُقرأ في ظرفيّتها وتأريخيّتها، بيد أنّ التّناقض والاختلاف في العديد من جزئياتها فيه دلالة واضحة على تأثير الاجتماع البشريّ في الاجتهاد الدّينيّ، بل وفي النّصّ الدّينيّ من حيث الإضافة كما في النّصّ الثّاني، أو ما بعد التّأويل، إلّا أنّ الّذي يهمنا اليوم أنّ نقرأ المرأة كما نقرأ الرّجل تماما في عصر تقدّمت فيه مواثيق حقوق الإنسان، ولا يمكن فصل المرأة بحال عن ذات الماهيّة الّتي ينطلق منها الرّجل، وفق قيمتي المساواة والعدالة، وعليه العديد من المصاديق ستتغيّر طبيعيّا، والنّظرة ستكون أكثر سعة، ولا يعني بذلك الدّياثة كما يبالغ في إسقاطاتها بعضهم كما أسلفنا، ومثل هذا رواية: «لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم»، فهذه الرّواية مرتبطة بالأمان، حينها كان السّفر شاقّا ومعرّضا صاحبه لصعوبات شتّى، لهذا استثنى العديد من الفقهاء قديما إذا كانت برفقة آمنة تحميها جاز لها ذلك ولو لم يكن محرم معها، واليوم السّفر آمن في الجملة، والمطارات آمنة، وسفر المرأة لدراسة أو عمل أصبحت كالرّجل تماما، وخروج المرأة للتّنزه والتّسوّق والعمل أسهل من الأمس بكثير، فلا ينبغي النّظرة الدّونيّة إلى المرأة، وكأنّها الخطيّة الأصليّة الملازمة للإنسان، فهي كائن بشري مستقل كالرّجل تماما، إذا نظر إليها بتلك الدّونيّة ولو لغايات حميدة؛ فقد المجتمع مقوّما مهمّا قادرا على المساهمة الكبرى في بنائه ورقيّه، بدل الاشتغال بثانويّات شكليّة، تترك للمرأة ذاتها، ولثقافتها ورؤيتها.