الدولـة والطـريق إلى تحديثها

10 يوليو 2024
10 يوليو 2024

على مثـال انشـغال النـهضويـين العـرب - ومـن تلاهـم من مفـكـري القرن العشرين ومن تيـارات إيـديولوجيـة شتـى - ببـناء دولـة حديثـة انشـغلـت النـخب السياسيـة العربيـة بذلك أيـضا من موقعها في السلطة، بـل هي نجحت، إلى حـد، في تـرجمة بعـض ما كان في حيـز المأمـول النـظري أو المرغـوب الذهـني - عنـد الإصلاحيـيـن والنـهضويـين ونخبـة الأنـتلجـنسـيا - إلى سياسات ماديـة في المياديـن المختـلفة: الاقتصاديـة، التـعليميـة، الاجتـماعيـة عادت ثمراتها على المجتمعات العربيـة بأجـزل المنافـع والفوائـد. وهـذه حقـيقة تطعـن في الكثيـر من النـقـد الذي وجـه إلى تجربة السلطـة في البـلاد العربيـة والذي غـالى في اتهامها بالتـقصير في إنجاز ما كان عليها أن تـنـجـزه في مضمار البناء الدولـتي: بناء المؤسسات، وفي مضمار التـنميـة الاقتصاديـة والتـنمية الاجتماعيـة. نحن هنا لا نبغي، على القـطع، أن نـدافع عن تجـربة السلطة أو عنها هي بما هي سلطـة، وليس يعـنيـنا ذلك، بل نقـصد إلى القـول بحاجـة النـقـد إلى الأمانـة التاريخيـة لكي يكـون نـقـدا على التحقـيق.

قـد يصـح أن نسائـل عمليـة التـحديث المطـبـقة في الدول العربيـة الحـديثة عما استطاعـته فعـلا، وعـما إذا اختصـرت الطريق جـديـا نحـو بلـوغ هـدف رسوخ نموذج الدولـة الوطنيـة واستـتباب الأمـر لـه. بـل من المشروع، تمـاما، أن نفحـص نـقـديـا عمـا إذا كان التحديث ذاك قـد طال الأساسات الاجتماعيـة والسياسيـة وامـتـد أثـرا إلى الذهـنيـة العامـة، أو أنـه ما نجـح في أن يرتـاد مثـل هذا الأفـق ارتـيادا، فاكـتفى بالقليل وما جـاوز القشور والسطوح إلى ما هـو أعـمق. كل هـذا مشروع، ولكـن الذي قد يـعـرى عن أي مشروعيـة هو أن نـنـفي عن ذلك التـحديث أن يكون له أي أثـر مادي فـعلي في حياة المجتمعات والشعـوب العربيـة ومعيشـها. هكـذا نكـون قد خـلطـنا بين فعلـيـن معرفـيـيـن نـقيضـيـن: بـين النـقـد -ومن موجباته أن يستصحب معه الوعـي التاريـخي- والعدميـة! وهكـذا يظـل وعيـنا أسيـر النمـوذج الذهـني المرجعي للدولـة الحديثة -وهـو تحقـق في بلـدان الغـرب- من غيـر إيلاء أي انـتبـاه إلى تـراكـمات التحـديث الحاصلة، في العمـران السياسي والاجـتـماعي العـربي، من حيث هي تعـبـر عن عـمليـة من التـطـور التـاريخي المتـدرج. وهو كـلما ظـل أسير ذلك النـموذج الذهـني، انـزلـق - بالتـبـعـة - إلى إساءة الحكـم على المتحـقـق من المكتسبات بمعيـار غيـر مناسـب: مـدى مطابقـتها النمـوذج إياه والكينـونة على صـورته!

مـن ذا الذي يـسـعـه اليـوم، أن يجحـد ذلك الجـهد الكـبير الذي بـذل، على امتـداد عقـود من زمـننا المعاصر، للانتـقال بالبـلاد العربيـة من البـداوة والتـبدي إلى التـمـديـن، ثم لتوسعة نطـاق ذلك التـمـديـن إلى حيث جاوزت دينـاميـاتـه ومعـطياتـه بيئـات المـدن إلى الأرياف نفسها، من جهـة، ثم إلى حيث تـخـطى أهـل المـدن سكـان الأرياف نسبـة وتعـدادا، من جهـة أخـرى. الأمـر هـذا أتى يبـيـن عن تأثـيـره غير اليسيـر؛ فـلقـد تـرتب عنه أن الاكتساح المستمـر للأرياف من العلاقـات والقيـم المديـنـيـة أخـرج المناطق الريـفـيـة من عـزلتها واستـدمجـها -إلى حـد مـا- في النـظام المـديـني. هل يسعنا، إذن، أن نستـصغر شـأن هذا الانـتـقـال من نظـام حياتـي قاس وشاق إلى آخـر أقـل عسرا، فلا نـعـده من مكتسبات سياسات التـحديـث التي نهجـتها النخب السياسيـة الحاكمـة؟

ثم من ذا الذي يسـعه أن يـنـكـر النجاحات التي أحـرزت في باب رفـع بعض الحيـف والظـلم التاريخـي عن المرأة، وكـف بعض الميـز ضدها، وذلك من طريق تحريرها النسبي من قيـود التـقليـد الذي حجبها، طويلا، في الجـحر البيـتي وحرمها من التـمتـع بأبسط حقوقها في التعليـم والعمل وتـقـلد المسؤوليات العامـة أسوة بالرجـل؟ بل مـن يسعه أن يتجاهـل أن هذا التحرير الجـزئـي للمرأة من أرباق التـقـليد -وقد نهضت سياسات السلطـة بتحقـيقـه- اقـتضى من هذه السلطة، في جملة ما اقـتضـاه، أن تـحتاز قـدرا من الشجاعـة في إنفـاذ أمره في مواجهـة قـوى محافظة ومناهضة لحرية المرأة؛ ولولاها ولولا سلطانـها القانوني ما كان أحـدٌ يـقـوى على تجريع هذه الإصلاحات لأوضاع المرأة لتلك القـوى المعانـدة لأي تحسيـن لأوضاعها، حتى وإن تـفـه حجـمه وحـقـر مـداه فكان إلى الرمـزي أقـرب من أن يكون في حـكم التحسيـن الواقـعي!

هـذان مثالان فـقط من عشرات الأمثلـة الأخرى التي يمكننا أن نسوقها في باب بيان ما كان لعمليـة التحديث تلك من فـوائـد لا تـنـكـر. صحيح أن عمليـات التـمديـن، التي جرت وما برحـت تجري، لم يساوقـها فـلاحٌ في استئصال بقايـا التـبـدي والبـدونـة مـعا وفي وقـف عمليـة التريـيف الزاحفـة على المـدن؛ تماما كما لم يتـولـد من تحقيق التـمديـن تمـدن فعـليٌ بالضرورة. وصحيـح أن إنصـاف المرأة في بعـض حقوقـها - وإن هـو أتـى إنصافـا لحقوق أساس لنصف المجتمع - أعاد إليها بعـضا ممـا صـودر منها، ولكنـه ما بـلغ درجـة تحقـيق المساواة الكاملـة بين الجنسيـن - وهي من مقـتضيات المواطنة ومن أركانها ومداميـكها الأساس - ولا هـو حـصـن مكتسبات النساء تلك بسياسـات ثـقافيـة واجتماعيـة تسعى، حثيـثـا، في تغـيير الذهنـيـات ومحاصرة الثـقافـة الذكـوريـة (وهي متغلغـلة في الجنسين معـا). ثم، فـوق هـذا كلـه، من الصحيـح أن التحـديث بطيء، أحيـانا، وانتـقائـي في أكثـر أحـواله، وأغلـب فعـله يقـع على ما هـو مـادي في المجتمع (اقتصادي، تـقنـي، خـدمـي، وسائـلي...)، لا على ما هـو اجتـماعي وثـقـافـي (وهـو الجـوهري في الاجتـماع) ...، مع ذلك، ليس من المصلحـة العامـة الطـعـن عليه جملة وإنـكـار جـدواه... على نحـو ما يفـعل كـثيـرٌ من النـقـدة المجـردين من كـل حـس تاريـخي، والمشـدوديـن إلى النـماذج الذهـنيـة المجـردة، والممعـنين في العـدمية العميـاء...

ليس لـما نقـوله عن النجـاحـات النسبـيـة للتـحديث في الاجتـماع العربـي علاقـة مـا -لا مـن قـريب ولا مـن بعيـد- بشعـور نـفسـي تـفاؤلي مبـني، مثـلا، على إحسـان الظـن بالنـخب السياسيـة القائـدة، أو على الاعـتـقـاد بصـدق انخـراطها في سيـرورات الإصـلاح والتـحديث ورغـبتـها فيه. إن الذي يحملـنا على ذلك هـو وعـيٌ حـاد بأن هـذا التـحديث قـدر تاريـخي حـتمـي سيمـضـي فيه الاجتـماع السـياسي العـربي حتى النهايـة؛ أي حتى بلـوغـه (أي التحـديث) المياديـن التي ما تـزال مـقـفـلـة عليه اليـوم، وسريان مفاعيلـه فيها؛ ثـم حتى وصـولـه العتبـة الأعلى التي تـفـتح المجـال السياسي العربي على صيـرورة الدولـة الوطنيـة أمـرا واقـعا فيـه يضاهـي واقـعها الفـعلي في بلـدان سبـقـتـنا أمـمها وشعـوبها إلى اجتـراح إمكانـها. ليست قـدريـة التـحديـث المتـدرج بشيء آخـر سـوى التـرجمـة الماديـة الإيجابيـة لسيرورة أخـرى معاكسـة وانحداريـة؛ هي سيـرورة تراجـع التـقليـد واضمـحلالـه وصـولا إلى أفـوله. السيرورتان مـعا من أحـكام تاريخ مـوضوعي. قد ينتـكس التـحديث عند محـطـة ما وقـد يزيد تباطـؤا وترددا، ولكـنـه سيجد أمامه مساحـات تـتسع، باستمـرار، يـخـليها له تـقـليد ما عاد يستـطيـع البقـاء طـويلا: ليس لأن أساساتـه تضـرب في الداخـل العـربي، بـل لأنـها تـتهاوى تحت ضربـات الثـورات العـلميـة والاجتماعيـة الجاريـة في العالـم. مع ذلك، لا يمكننا أن نشيح بأنظارنا عن واقع تلك الجيوش المجيشـة، هنا وهنا، المستـنـفـرة ضد ذلك التحديث، وعما تمتلكـه من قـوى وموارد في معركتها المحافظة ضده.