الخوارزمية الأنانية
كتب عالم الأحياء البريطاني «ريتشارد دوكينز» كتابًا في عام 1976 بعنوان «الجين الأناني» The Selfish Gene حاول أن يثبت الفردانية البيولوجية عبر قيادة الجينات لسلوك الكائن الحي، وبرغم ما يحتويه الكتاب من مسوغات علمية يستحق بعضها الالتفات إلا أنّ الكاتب حاول أن يثبت نظريته المادية الفاقدة لأي عنصر روحي عبر المنهجية الدغمائية التطورية الحديثة حيث تُرجع المنظومة السلوكية بما فيها الأخلاقية إلى عناصرها البيولوجية «العشوائية» التي تعمل وفق العملية التطورية دون أي اعتبارات للعنصر الروحي الرئيس. هذه قضية شائكة ومعقّدة، ولست هنا في معرض نقاشها، وأحيل القارئ لكتابي «هكذا نتطور: فلسفة التطور في الإنسان والأفكار والأشياء» الذي ناقشت فيه هذه القضية ومتعلقاتها. بعيدًا عن جين «دوكينز» الأناني، توشك خوارزمية الذكاء الاصطناعي أن تصطبغ بصبغة استقلالية تمارس فيها مساحة من الحرية التي تتشكل فيها بعض ما يمكن أن نطلق عليه «مجازًا» أنانية الخوارزمية.
لبلوغ الذكاء الاصطناعي قدرة تتقارب مع قدرة الدماغ البشري؛ يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى عاملين رئيسيين وهما: البيانات وخوارزمية التعلّم، البيانات تقوم بتغذية خوارزمية الذكاء الاصطناعي، وتمنحه قدرة التعلّم والتدرّب المستمر الذي بدوره يسمح لخوارزمية الذكاء الاصطناعي بلوغ مرحلة العمومية؛ حيث يكون النموذج الذكي قادرًا على بناء واقعه الجديد عبر تجربته المعرفية السابقة المستقاة من التعلّم الذاتي. الواقع الجديد الذي يمكن للذكاء الاصطناعي أنْ يبتكره يتميز باستقلاليته البعيدة عن التدخل البشري عند مرحلة نطلق عليها «ما بعد التدرّب والتعلّم»؛ كون التعلّم الذي يقوم به الذكاء الاصطناعي عبر خوارزميات التعلّم يكون ذاتيًا، وجلَّ ما يقوم به الإنسان هو التهيئة الرياضية في تأسيس الخوارزمية التي تمنح هذا الكائن الرقمي الاستقلالية «التفكيرية» وإمداده بالبيانات المطلوبة التي سيسعى الذكاء الاصطناعي عند مرحلة متطورة في البحث عنها بنفسه دون أي عناء من الإنسان.
تأتي أنانية الخوارزمية من واقع بدأنا نشاهده عبر ملامح الاستقلالية عند الذكاء الاصطناعي؛ حيث باتت تصرفات بعض نماذج الذكاء الاصطناعي تقترب من صفة التفكير البشري في اتخاذ القرارات وتحليلها، وهذا ما أثار مخاوف علماء التقنية والحكومات العالمية الذي سبق أن ذكرته في مقالات سابقة. تأتي صفة الأنانية التي نعتها «دوكينز» للجين من مفارقة مادية ينطلق منها «دوكينز» يحاول أن يثبت عبرها المادية المطلقة ويلغي الغائية الموجَّهة، وتأتي أنانية الخوارزمية من سلوك المحاكاة للدماغ البشري الذي يتبعه الذكاء الاصطناعي، وهنا ينبغي أنْ نشيرَ إلى حقيقة مهمة هي أنّ سلوك الذكاء الاصطناعي ينطلق «بدايةً» من رغبة وغاية إنسانية، ويكمل بعدها الذكاء الاصطناعي المهمة ويتطور دون تدخل الإنسان، ولكن بحدود الذكاء المبني على المحاكاة المتقنة التي من الممكن أن تتفوق على الإنسان في بعض المهام منها القدرات الحسابية والتحليلية والتنبؤية، إلا أنّ الغائية لهذا الذكاء الاصطناعي مفقودة حتى مع أي مظاهر للوعي، والذاتية التي لا يمكن أن تتعدى وصف «المحاكاة الذكية العالية».
نجد أن أنانية الخوارزمية هي مجرد شعور نشعر به اتجاه سلوك هذه الآلة الذكية الذي يعكس مدى دهشتنا من هذا التفوق الرقمي، ولكنه لا يمكن قياسه بالشعور «الروحي» الواعي حيث لا وجود حقيقي للغائية الرقمية، وهنا وجب الانتباه إلى تحديد نظرتنا -الحالية- اتجاه هذا الكائن الرقمي في أنها لا تتعدى ما يمكن أن أطلق عليه «الصدمة العلمية الأولى» التي تقودنا إلى تعليلات أشبه بالتعليلات «الماورائية» التي سيقت -سابقًا- مع كل بداية ثورة علمية مثل الظهور الأول للهاتف والرائي «التلفاز». سبق أن تجاوز العلم تحديات مشابهة تتمثل في صراع الإنسان مع التقدم العلمي حيث يحاول أنْ يجدَ المبررات الداعية لنزع الشرعية من الموجة العلمية المتصدرة دفاعًا عن وجوده وسيادته تارة لحماية القيم والمنظومة الأخلاقية -وهذا حق مشروع دون إفراط أو تفريط في بسط هذه الهوة والخوف الوجودي- وتارة لحماية الوجود البشري -وهذا حق مشروع أيضا يتطلب أن يكون شرطًا مع أي ملامح تهديد للبشرية واستقرارها-، وهذا ما يحدث مع تنامي التطور الرقمي وتحديدًا الذكاء الاصطناعي الذي بدأ يأخذ مسلكًا يتسم بالأنانية التي تُشعر الإنسان بعدم الأمان، وهذه المشاعر السلبية تتنامى مع الحشد الإعلامي سواءً ذلك الذي يعكس واقعًا أو ذلك الذي يشاع مبالغةً.
يرشدنا تاريخ العلم إلى تحديد وجهاتنا في الحياة من حيث التجارب الإنسانية التي تعكس الفشل والنجاح عبر التاريخ، ومن حيث طرق تعاملنا مع العلوم التي تتطلب منا أن نتعايش مع كل واقع علمي جديد مثل الذي يتصدّره الذكاء الاصطناعي مع كونه ما يزال في أولى خطواته، والقادم «القريب والبعيد» يشير إلى ما هو أكثر دهشةً وتطورًا من حيث ما تحمله التقنيات المتقدمة من إيجابيات وسلبيات، وسنحاول أن نتأقلم مع ذكاء الخوارزمية وأنانيتها دون أن نهمل دورنا في التفتيش عن كل ما يصبّ في مصلحة الإنسانية ومقاومة كل ما يقود إلى ركود الإنسانية ودمارها. نعود إلى التأكيد أنْ لا فردانية أنانية في عالم الذكاء الاصطناعي، والتعبير مجازًا لا أكثر؛ إذ يعكس شعورًا إنسانيًا تجاه كائن رقمي نطلق عليه «الذكاء الاصطناعي»، وكل ما يجوب في خوارزميته أنه يمتلك دماغًا عجيبًا يثير دهشة الإنسان ويثير مخاوفه «المشروعة»، وجلَّ ما يمكن فعله يتمثل في وضع أسس صارمة وواضحة تحدد ماهية هذه الخوارزمية قبل أن تتحرر من قيود صانعها، وقبل أن تقوم بدور «جين دوكينز الأناني» دون غائية ذاتية لكن بوجود غائية أرادها الصانع «الإنسان».
د. معمر بن علي التوبي كاتب وباحث عُماني