الخصوصية ليست انـكفاء
مثلما يقود الولـه الشديد بالكونية إلى تصييرها معتـقدا مغلقا، وإلى عـدم اعتبار لأي خصوصية، بـل والنظر إلى كل دفاع عن الخصوصيات بما هو نقض لمبدأ الكونية، كذلك يقود الانهـواس بالخصوصية إلى الغـلو في الدفاع عنها حـدا من الدفاع قد يقارب إبطال أي قول بالكونية أو، على الأقـل، حـد وضعها في مقابل تلك الكونية. على أن مثل هذه المغالاة في التـمسك بالخصوصيات وبمشروعية القول بها قـد لا يكون مـأتاه من موقف إيديولوجي - أو عـقـدي - منغلق، دائما، على مثال ما ينتهي إليه المدافعون عن مبدأ الأصالة، بل ربما دفع إليه مسـلك دفاعي مشروع من المتمسكين بمبدأ الخصوصيات تجاه ما قد يبدو تغـولا في أفعال الكونية؛ من قبيل رفضها - أو رفض دعاتها بالأحرى - الاعتراف بخصوصيات ما؛ أو من قبيل ميلها إلى ابتلاع كل نزعـة إلى الممايـزة داخل الكلـي الكوني. وفي مثل هذه الحال، لا يؤاخـذ المدافعون عن الخصوصيات على دفاعهم عنها لأنه يضمر دفاعا عن النفس في وجه كونية كلانية من طبيعة ابتلاعية وإلحاقية، إذا كانت «تليق» بالقيم المادية - افتراضا - فهي لا تليق، قطعا، بالقيم غير المادية: الثـقافية، الأخلاقية، الجمالية... إلخ.
من المشروع، تماما، الاحتفاء بالخصوصيات والاحتفال بأمرها في التفكير والتأليف والمناقشات العامة والدأب على هذا المسلك الفكري، مع عدم المبالاة - كثيرا - بما يقال في حق هذا المبدأ وبما يـتهم به دعاته من محافظة وانعزال. الخصوصية وحدها الشرفة التي نطـل منها على الاجتماعي والثـقافي والتاريخي في مجتمع بعينه مما لا يمكنه أن يبين ويضح من مـدخـل آخر قد يهـدر الفروق والتمايزات. نحن هنا، طبعا، نتكلم على ميادين من التفكير ومن النشاط الإنساني شديدة التبايـن والتـعدد والخصوبة في التفاصيل، مثل الثـقافة ومنظومات الاعتقاد والسلوك، بحيث تعاصي نظام التوحيد والإدماج القابل للإعمال في ميادين أخرى مثل الاقتصاد والسياسة والمعارف العلمية. الكوني في مثل هذه الحال، وفي مثل هذه الميادين، هو الإنسان أما الخصوصي فتجاربه في البيئات التي يعيش فيها ويتفاعل مع منظوماتها ومواريثها التاريخية؛ وهذه لا تـقبل الجمع الكمي بينها الذي تلتغي به فواصلها باسم كونية مزعومة؛ ذلك أن هذا الكوني فيها (= الإنسان) لا يتجلى - ولا تتمظهر فعالياته - في صورة واحدة مكرورة، بل يفصح عن خصوبة شديدة في صـور التعبير عن نفسه وعن عالمه الرمزي.
تمدنا الأنثروپولوجيا بالأدوات المعرفية (= المفاهيم) الملائمة لفهم ذلك الكوني الإنساني في تبدياته الخاصة أو الخصوصية وتحليله. وهي تستطيع ذلك لأنها تنـزل بنا من العام إلى الخاص، من الكليات إلى التفاصيل، من العلاقات المنظومية الكبرى إلى العلاقات النوويـة الصغرى؛ وهذا وحده المسلك المنجهي الذي يظهـرنا على عالـم مزدحم بتفاصيل لا تتبين في أي تحليل ماكرو- اجتماعي مهجوس بالنظر في الكليات. على أن المقاربة الأنثروپولوجية إذ تفتح أمامنا إمكانا لوعي الخصوصيات في تفردها وتمايز منظوماتها وعوالمها الداخلية، تهيئنا - بما نتحصله من إدراك - لفهم أعمق وأبعد مـدى لمعنى الكونية ذاته. هكذا لا تعود الكونية نقضا - ونقيضا- للخصوصيات، بل تكون الإطار «النهائي» التركيبي المتولـد من فعل مجموعة من الخصوصيات المتضافرة بينها على تكوين جامع مشترك (هو عينه الكوني).
ليس يسع أي نزعة كونية - تقدم نفسها بما هي تجسيد للإنساني الشامل - أن تتجاهل الاختلاف بوصفه حقيقة واقعية لا مجرد دعوى يجهر بها المتمسكون بمبدأ الخصوصيات. وهو (أي الاختلاف) واقع طبيعي واجتماعي وإنساني. وإذا كان يـقـبل أن يرد في الطبيعة إلى مبدإ واحد وعلة واحدة (= المادة)، فهو لا يقبل أن يـرد، في المجتمعات ولدى الناس، على مبدأ واحد حتى وإن قلنا إن المبدأ هذا هو الإنسان؛ لأن هذا الأخير محكوم بأحكام التعدد والاختلاف. لا مناص، إذن، من التسليم بما هو في حكم الواقع الذي لا يمكن تغييره (= الاختلاف). ولقد قامت دعوة فلسفية معاصرة إلى الاعتراف بالحق في الاختلاف (بصرف النظر عما ستؤول إليه استخداماته من محاولة لصرفه نحو معنى بعينه دون آخر!)، وحسبانه حقا من حقوق الإنسان. وهي دعوة أنضجها الدرس الأنثروپولوجي للمجتمع والثقافة قبل أن تتوسلها الفلسفة. غير أن ما يعنينا من الموضوع كله هو أن اعتبارية مبدأ الخصوصيات هو من اعتبارية مبدأ الاختلاف، وأن نزعة كونية يدعو أهلها إلى التسليم بالحق في الاختلاف لن يحظى خطابها بأي مصداقية أو اتساق منطقي من دون الاعتراف بالخصوصيات بما هي تجـل لمبدأ الاختلاف.
على أن مشروعية الدعـوة إلى وجوب احترام الخصوصيات - في صورها كافـة: الاجتماعية والثـقافية والإيتيـقـية - ومشروعية التمسك بتلك الخصوصيات من قـبل من يدافعون عنها ينبغي أن لا تنقلب إلى نزعة عـداء للكونية أو خصومة معها، حتى وإن كانت مدافعة الفكرة ضد كونية إلحاقية أمرا مشروعا لا غبار عليه. نعم، هي ليست نقيضا للكونية لأنها تعبير عن بيئاتها الاجتماعية والثـقافية الخاصة، حصرا، لا عن البيئات بإطلاق. ثم إن الكونية نفسها ليست، في مطافها الأخير، سوى تلك الخصوصيات وقد تفاعلت فأنتجت مشتركات تجتمع عليها الجماعات الإنسانية وتتمسك بها بوصفها معايير عامة متواضعا عليها.
إن أسوأ ما يمكن أن تنتهي إليه فكرة الخصوصية، عند انتحالها التناقض مع الكونية، هي الصيرورة ذريعة للانكفاء وللتـشرنـق المرضي على الذات. تصبح حينذاك رديفا للأصالة، وبالتالي، مدخلا إلى التيه في سراديب مطلقات لا عاصم لها من العقل أو التاريخ. الخصوصية الحق هي التي تتطلع إلى أن تنتمي إلى الكونية فيكون لها نصيب ومساحة فيها، لا تلك التي يهبط معدل طموحها إلى مستوى الانكفاء على النـفس والدفاع عن الهويـة.