الحكم الهاملتوني.. إستراتيجية تاريخية لعالم مضطرب

08 سبتمبر 2024
08 سبتمبر 2024

ترجمة: نهى مصطفى

شهد القرن الحادي والعشرون عودة تقاليد السياسة الخارجية الأمريكية إلى الصدارة، والتي كانت تعتبر في السابق من بقايا الماضي العتيق. عادت بقوة الشعبوية القومية الجاكسونية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكان ينظر إليها في السابق على أنها مجرد مشاعر غير ناضجة تركتها الأمة المستنيرة وراءها. ومع غزو إدارة جورج دبليو بوش للعراق في عام 2003، عادت الانعزالية الجيفرسونية، والتي تعتقد بأن التدخل الأمريكي في الخارج لا يؤدي إلا إلى حرب لا نهاية لها، وإثراء النخب التجارية، وتآكل الديمقراطية الأمريكية، إلى الظهور كقوة فعّالة على كل من اليمين واليسار.

عادت هاتان المدرستان إلى الصدارة مع انهيار التوافق على سياسة خارجية بعد الحرب الباردة. فبعد عام 1990، حدد إجماع ليبرالي وعولمي على نطاق واسع الحدود التي تنافس ضمنها الليبراليون الدوليون الديمقراطيون ضد المحافظين الجدد الجمهوريين. وأوضح تراجع الرئيس باراك أوباما عن التدخل الإنساني في أعقاب الحملة الكارثية في ليبيا في عام 2011 تراجع قبضة الليبرالية الدولية بين الديمقراطيين. وكذلك فعلت استجابته المنضبطة للحرب الروسية على أوكرانيا في عام 2014. وعلى نحو مماثل، أشار فوز دونالد ترامب المفاجئ في الانتخابات التمهيدية الرئاسية الجمهورية لعام 2016 إلى انهيار المحافظين الجدد كقوة انتخابية مهمة بين القاعدة الجمهورية. وفي كلا الحزبين، طغى ضبط النفس على سياسة التدخل، باعتباره الأسلوب السائد للسياسة الخارجية، وأفسح الالتزام بالتجارة الحرة المجال لأشكال مختلفة من الحمائية والسياسة الصناعية.

انهار الإجماع الليبرالي العالمي في الوقت الذي عادت فيه المنافسة الجيوسياسية إلى مركز الشؤون العالمية. واليوم، أصبح أمن الولايات المتحدة وحلفائها، إلى جانب مجموعة متنوعة من السلع العامة الدولية، التي تشكل أساس السلام الأمريكي، معرضة لخطر متزايد. وتتآكل أسس النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة بشكل مطرد، مع تفاقم الأزمات على الحدود الغربية لروسيا، وفي الشرق الأوسط، وفي المياه المتنازع عليها حول الصين. وتتطلب الاستجابات الفعّالة للتحديات المتزايدة ذلك النوع من الإجماع المستقر الذي لم تعد أمريكا المجزأة سياسيًا قادرة على توفيره.

في الربع الأخير من القرن، تحولت السياسة الخارجية الأمريكية إلى دوامة واسعة، حيث جلب رئيس تلو الآخر - بوش، وأوباما، وترامب، وجو بايدن - نهجًا مختلفًا تمامًا إلى البيت الأبيض. بدأ الحلفاء والخصوم على حد سواء في التقليل من أهمية التزامات كل رئيس، نظرًا لاحتمالية عكس سياساته أو تعديلها بشكل كبير من قبل خليفته. ورغم أن الشعبوية الوطنية الجاكسونية والعزلة الجيفرسونية لهما مكانهما الشرعي في مناقشات السياسة الخارجية الأمريكية، فإن أيًا منهما لا يستطيع معالجة تحديات اليوم بشكل كامل.

برزت مدرسة تاريخية أخرى في السياسة الخارجية الأمريكية، وهي مدرسة البراجماتية الهاملتونية، وهي الأكثر ملاءمة لأزمات العالم المعاصر. تستند إلى الفلسفة السياسية لألكسندر هاملتون، أحد الآباء المؤسسين وأول وزير للخزانة. وتقدم هذه المدرسة استراتيجية عظيمة تعمل بنشاط على تعزيز التجارة الأمريكية، والوطنية الأمريكية، والواقعية المستنيرة في الشؤون الخارجية. كانت مدرسة هاملتون قد ضلت طريقها في ظل التفاؤل في حقبة ما بعد الحرب الباردة، ولكن ضغوط حقبة أكثر رصانة في تاريخ العالم أدت إلى إعادة اكتشاف الأفكار الأساسية التي تجعل من تقاليد هاملتون عنصرًا أساسيًا في السياسة الخارجية الأمريكية الناجحة.

تتمثل القوة الدافعة وراء التجديد الهاملتوني في الأهمية المتزايدة للترابط المتبادل بين نجاح الشركات وقوة الدولة. ففي الأيام المبهجة التي أعقبت الحرب الباردة، بدأت وول ستريت ووادي السليكون والعديد من الشركات الرائدة اعتبار نفسها شركات عالمية وليست أمريكية. وعلاوة على ذلك، بدا للعديد من المفكرين والمسؤولين في مجال السياسة الخارجية أن التمييز بين المصالح الوطنية الأمريكية واحتياجات ومتطلبات النظام الاقتصادي والسياسي العالمي قد اختفى إلى حد كبير.

كان التفكير السائد آنذاك أن المصالح الاقتصادية والأمنية الأمريكية تتطلب بناء نظام دولي قوي يعزز القيم الاقتصادية والسياسية الليبرالية. وكان من غير المنطقي أن نفكر في المصالح الأمريكية على أنها تتعارض مع مصالح النظام العالمي الناشئ الذي تقوده الولايات المتحدة. ولنقتبس العبارة الشهيرة التي قالها تشارلز ويلسون، وزير الدفاع في عهد الرئيس دوايت أيزنهاور: «في عصر ما بعد الحرب الباردة، ونهاية التاريخ، كل ما كان جيدًا للعالم هو مفيد للولايات المتحدة».

اليوم، تتعرض هذه الرؤية لليوتوبيا الليبرالية العالمية لانتقادات شديدة من جميع الجهات. تسعى الصين وغيرها من الأنظمة غير الليبرالية إلى استخدام وإساءة استخدام سلطة الدولة لبناء تحديات اقتصادية لشركات التكنولوجيا الأمريكية الرائدة. تواجه شركات مثل ألفابيت وآبل وميتا عقبات قانونية وتنظيمية متزايدة من حكومات الدول التي تحاول تغيير موازين القوى في العالم. وعلاوة على ذلك، فإن استخدام الإعانات والقيود التجارية المتزايد لتعزيز أهداف المناخ يزيد من الدرجة التي تدفع بها قرارات الحكومة قرارات الاستثمار في القطاع الخاص وتؤثر على ربحية الشركات في جميع أنحاء العالم. لم تكن قوة الدولة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بديناميكية عالم الشركات من قبل. يعمل هذا الارتباط بقوة أكبر على أكثر مستويات التكنولوجيا والإنتاج تقدمًا: حيث أصبح جمع المعلومات والتمويل والأعمال والحكومة ضروريًا بشكل متزايد لازدهار وأمن الدولة والشعب الأمريكي.

وفي الوقت نفسه، يفرض الصراع الجيوسياسي خطرًا فعليًا ومحتملًا على نماذج الأعمال التي تتبناها شركات القطاع الخاص، التي تعتمد على سلاسل التوريد العالمية. وعلى نحو متزايد، ينضم جمع المعلومات وتخزينها واستغلالها إلى المال كعنصر حاسم في قوة الدول. تؤدي المعلومات اليوم دورًا متزايدًا كأساس للقوة العسكرية، والقوة الاقتصادية التي تجعل القوة العسكرية في متناول الجميع، وصناعة الأسلحة ملائمة، وقدرات الأمن السيبراني الدفاعية والهجومية.

اكتشف قادة الأعمال والحكومة أن أفكار هاملتون صالحة اليوم: السياسة الاقتصادية هي استراتيجية، والعكس صحيح. أدت التأثيرات المشتركة لثورة المعلومات، والمزيج الهائل من الاستثمار والنشاط التنظيمي من جانب الحكومات في مجمع الطاقة المتورط في مكافحة تغير المناخ، التي تم إدخالها في أعقاب الأزمة المالية، إلى ربط عالم الشركات والدولة الأمريكية بشكل وثيق. تعزز المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية في الصراع مع الصين الزواج بين البيت الأبيض وول ستريت.

الواقع أن اليمين الليبرالي سوف يشعر بخيبة الأمل إزاء وجود هذه الصلة، وأنها سوف تتعمق بلا توقف. وسوف يتألم اليسار المناهض للشركات عندما يدرك أن الدول سوف تختار بالضرورة استخدام نفوذها الاقتصادي والسياسي لتعزيز شركات التكنولوجيا الكبرى بدلًا من كبح جماحها. وفي عصر المنافسة الجيوسياسية الحالي، سوف تقلق واشنطن أكثر بشأن ما إذا كانت شركات التكنولوجيا الرائدة لديها قوية بما يكفي وتتمتع بالموارد الكافية للبقاء في الصدارة أمام منافسيها الصينيين، وليس ما إذا كانت شركات التكنولوجيا الأمريكية أصبحت أكبر مما ينبغي. ومن المرجح أن يقاوم الرؤساء في المستقبل جهود الاتحاد الأوروبي الرامية إلى فرض غرامات باهظة لمكافحة الاحتكار على شركات التكنولوجيا الأمريكية، بدلًا من فرض قواعد مماثلة في الداخل. وسوف يكون السؤال حول ما إذا كانت شركة تكنولوجيا معينة شريكًا مخلصًا وموثوقًا به لواشنطن أكثر أهمية بالنسبة للحكومة الأمريكية مما إذا كانت الشركة أكبر مما ينبغي. وهذا الواقع بدوره سوف يدفع شركات التكنولوجيا الكبرى إلى السعي إلى إيجاد تسوية مؤقتة مع الدولة.

أصبح النظام السياسي الأمريكي حساسًا بشكل متزايد للعلاقة بين الأعمال والأمن القومي. من معركة إدارة ترامب ضد شركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي إلى حظر إدارة بايدن لشركات الأمن السيبراني الروسية مثل كاسبرسكي لاب، يفحص صناع السياسات أنشطة الاستثمار والشراء التي تقوم بها الشركات الخاصة لتحديد العواقب السلبية المحتملة على الأمن القومي.

كما أن صعود الشعبوية يدفع الشركات - في محاولة للدفاع عن النفس - إلى تبني الدولة القومية. تنظر القومية الشعبوية إلى الشركات المتعددة الجنسيات والشركات الكبرى والرأسمالية المالية بريبة عميقة. وقد تواجه الشركات التي يُنظر إليها على أنها أقل ولاءً للولايات المتحدة رد فعل عنيفًا سريعًا من الساسة الغاضبين الذين يهاجمونها باعتبارها إما أن لديها وعيا بالقضايا الاجتماعية والبيئية أو مؤيدة للصين.

الطريقة الهاملتونية ليست نظامًا جامدًا أو قيودًا أيديولوجية، بل إنها طريقة للتفكير بشكل عملي حول العلاقة بين متطلبات رأسمالية السوق، ومتطلبات السياسة الداخلية، وحقائق النظام الدولي، وتقترح حكومة فيدرالية قوية ولكن محدودة تعمل على تعزيز تنمية قطاع الأعمال المزدهر في الداخل وتعزز أمن الولايات المتحدة وتجارتها في الخارج. ولابد أن ترتكز السياسة الداخلية على نظام مالي سليم، والاقتصاد المؤيد للسوق. ولابد أن تقوم السياسة الخارجية على مزيج من سياسات توازن القوى والمصالح التجارية والقيم الأمريكية.

سعت سياسة هاملتون إلى تكييف أهم سمات النظام البريطاني مع الولايات المتحدة - وهو أحد الأسباب التي جعلتها تواجه عداءً عميقًا من جانب كارهي بريطانيا مثل توماس جيفرسون. وبينما كان هاملتون يتطلع في مختلف أنحاء العالم بحثًا عن نموذج يمكن للجمهورية الأمريكية المستقلة حديثًا أن تحاكيه، أدرك أن جوهر سياسة الحكم البريطاني، إذا ما تكيف مع الظروف الأمريكية، يوفر أفضل فرصة لبلاده لتحقيق الرخاء والقوة اللازمين لاستقرار سياساتها الداخلية. ذلك أن السلطة التنفيذية القوية، والنظام المالي القوي المدعوم من قِبَل بنك مركزي مستقل، والإدارة المستقرة للدين العام، والسوق الوطنية المتكاملة المدعومة بسيادة القانون والاستثمارات الحكومية الذكية في البنية الأساسية، كل هذه العناصر من شأنها، في ضوء الموارد الطبيعية الوفيرة التي تتمتع بها الولايات المتحدة وروح المبادرة، أن تعمل على تطوير اقتصاد وطني قوي وديناميكي ومتقدم تكنولوجيًا.

على مدى أكثر من قرنين من التغيرات الدرامية، كانت هناك ثلاث أفكار تشكل جوهر الرؤية الهاملتونية: مركزية التجارة بالنسبة للمجتمع الأمريكي، وأهمية الهوية القومية القوية والوطنية، والحاجة إلى واقعية مستنيرة في الشؤون الخارجية. وعكست الحقبة التي أعقبت الحرب الباردة، عندما سعى جزء كبير من المؤسسة الأمريكية إلى تجاوز العنصر الوطني في الفكر الهاملتوني، فترة غير عادية وقصيرة العمر في التاريخ الأمريكي، حيث بدا أن بناء النظام العالمي حل محل حماية مصالح الدولة الأمريكية والأعمال التجارية الأمريكية. وكان فصل أجندة الأعمال عن أي شعور بهدف قومي أو وطني له عواقب سلبية عميقة وحادة على الموقف السياسي للسياسيين والمصالح المؤيدة للأعمال التجارية في الولايات المتحدة.

لم يكن هاملتون جبريًا. ولم يكن يعتقد أن المبادئ التي تترسخ في الكتب المدرسية و«قوانين» العلوم الاجتماعية، التي تحكم تطور البشر، سواء كانت ماركسية أو ليبرالية، قادرة على تفسير المسار الملتوي للتاريخ البشري. والتكامل الاقتصادي قادر على خلق إمكانية بناء نظام دولي دائم ومستقر، ولكن هذه العملية لم تكن تلقائية. فقد تبنت ألمانيا واليابان نظامًا رأسماليًا هاملتونيا ودخلتا في أنواع جديدة من العلاقات الدولية، ولكن دولاً مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا اتخذت خيارات مختلفة. وعلى النقيض من العديد من صناع السياسات والمحللين في أمريكا ما بعد الحرب الباردة، لم يكن هاملتون ليفاجَأ برفض هذه الخيارات.

المجتمعات القائمة على القانون والديمقراطية قد تميل نحو علاقات دولية أكثر استقرارًا وأقل عنفًا، ولكن لا يوجد ما يضمن استمرار الدول على هذا المسار، ولا حتى أن جميع الدول سوف تتبناه أبدًا. وفي هذا العالم الشرير وغير الكامل، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تنزع سلاحها من جانب واحد. ولا تستطيع أن تتنازل عن دفاعاتها، ولا تستطيع أن توفق استراتيجيتها الوطنية مع أقواس التاريخ التي لا تنحني أبدًا عندما تريدها.

لا تستطيع الولايات المتحدة أيضًا أن تدير ظهرها للعالم. ذلك أن الرخاء الذي يعتمد عليه السلام والسعادة في الداخل الأمريكي كان مرتبطًا دومًا بالتجارة الخارجية. وعندما تسعى دولة ما إلى الهيمنة على أوروبا أو آسيا، فإن أمن الولايات المتحدة في الداخل سرعان ما يصبح مهددًا. وقد يتطلب الانخراط في بعض الأحيان أن تتحالف واشنطن، كما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية، مع قتلة جماعيين مثل الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين وتدعمهم بنشاط. وقد يتطلب في بعض الأحيان اتخاذ إجراءات قاسية وحاسمة تختبر أقصى حدود ما هو مسموح به أخلاقيًا. ولكنه يتطلب أيضًا الإخلاص لبعض القيم التي تتجاوز المصالح الأنانية للولايات المتحدة، والتي تصورها على نحو ضيق.

في حين يكافح الأمريكيون للتعامل مع عالم رفضت فيه الدول القوية النظام الذي تأمل الولايات المتحدة في بنائه، فسوف يحتاجون إلى جانبي الرؤية الهاملتونية: التنوير والواقعية. يستطيع صناع السياسات الهاملتونية أن يتصرفوا بلا رحمة لدعم المصلحة الوطنية؛ ويمكنهم أيضًا أن يكونوا نماذج للحكم المستنير، وهم يختارون مسار عملهم اعتمادًا على قراءتهم لظروف الوقت.

وإحياء مبدأ هاملتون في الحياة الأمريكية مدفوع بالتفاعل بين عصر جديد من المنافسة الجيوسياسية وديناميكيات ثورة المعلومات والواقع أن الأفكار والأولويات، التي تصاحب هذا العصر تشكل أهمية بالغة، إذا كان للولايات المتحدة أن تستعيد توازنها الثقافي والسياسي في الداخل في حين تبحر في البيئة الصعبة في الخارج. ويتعين على الزعماء الأمريكيين أن يحتضنوا عودة مجموعة من الأفكار التي ساهمت إلى حد كبير في جعل الولايات المتحدة، على الرغم من كل عيوبها، واحدة من أغنى المجتمعات وأكثرها قوة وانفتاحًا وتقدمًا في التاريخ.

والتر راسل ميد أستاذ الدراسات الاستراتيجية والعلوم الإنسانية في مركز هاملتون للتعليم الكلاسيكي والمدني في جامعة فلوريدا، وكاتب عمود في صحيفة وول ستريت جورنال، وزميل متميز في معهد هدسون.

ـ نُشر المقال في مجلة الشؤون الخارجية وعلى موقع« ForeignAffairs.com »