الحدّاديّة بين الجاميّة والحركات الجهاديّة المتطرّفة
مرّ العالم الإسلاميّ منذ حالة الإفاقة في القرن التّاسع عشر الميلاديّ بمرحلتين: الأولى تتمثل في انقسام العالم إلى كتلتين، تمثلتا لاحقا في دول التّحالف والمحور، وكان ما يتشبثون به يتمثل في أمرين: الخلافة العثمانيّة ووحدة محاربة الاستعمار، ومن جهة أخرى هناك من يرى أنّ الخلافة العثمانيّة قادت الأمّة إلى الجهل والتّخلّف، ولا يمكن مقارعة الاستعمار إلّا بمحاربة الجهل، وهنا استخدم بعض المصلحين مصطلح السّلفيّة في المعنى الإحيائيّ القيميّ، أي الشّيء الذي كان سببا في إحياء السّلف، فلن يصلح آخر هذه الأمّة إلّا بما صلح به أولها، وليس بمعنى الجمود، أو إحياء الصّراع الأول بين الصّفاتيين والمعتزلة، فنجد مصطلح السّلفيّة حاضرا في أدبيات محمّد عبده (ت: 1905)، ومحمّد رشيد رضا (ت: 1935م)، في المقابل نتيجة تهميش الأقليات، والبعد عن الجامع بالمعنى الدّينيّ، كان اتّجاه آخر في الإحياء بالمعنى القوميّ الأكبر، دون تهميش للأقليّات، أو استخدام الدّين في تبرير الاستبداد وإقصاء الآخر، فظهرت حركات اليسار، وكان فيها رجال دين تبنّوها كفكر، ولاحقا كمنهج تحت مظلّة الاشتراكيّة في الإسلام.
في مقابل القوميّة والّتي قادت روحها مصر منذ أيام الملكيّة كمنهج دعوة إلى منهج سياسيّ واقتصاديّ في عهد جمال عبدالنّاصر (ت: 1970م)، قابله تشكل خطاب دينيّ تحت مظلّة السّلفيّة، لقي دعما من المال بسبب انتعاش المنطقة بالنّفط، وتمثل هذا في المملكة العربيّة السّعوديّة، فمنذ ضعف حضور إخوان بريدة في عهد الملك عبدالعزيز (ت: 1953م)، وبداية استقطاب الإخوان المسلمين، خصوصا نتيجة الاضطهاد في مصر؛ بدأ تشكل سلفيّة جديدة، مازجت بين معتقد السّلفيّة وأصولها التّقليديّة، وبين حركيّة الإخوان، المتمثلة ظاهريّا في الدّعوة وأسلمة الدّولة، ومستقبليّا -عند العديد منهم- قيام الخلافة الإسلاميّة، أو قيام حكومات إسلاميّة، وتحقّق الثّاني يكون بتحقّق الأول عند الفريق الأغلب، وهنا ظهرت التّيارات الصّحويّة والسّروريّة والقطبيّة وغيرها، يجمعها هذا التّمازج، بيد أنّ فريقا آخر يرى تحقّق الأسلمة لا يكون إلّا بتحقّق الحاكميّة، وقيام حكومة إسلاميّة لا يكون إلّا بقيام أنظمة حاكمة إسلاميّة، وبدأ فكرا في حاكميّة المودوديّ (ت: 1979م) وسيّد قطب (ت: 1966م)، وظهر كأول منهج حركيّ واضح عند مصطفى شكريّ (ت: 1978م) وعبدالسّلام فرج (ت: 1982م) مثلا، من خلال نشوء جماعات جهاديّة متطرّفة ومكفرة، مستخدمة أدبيات ابن تيميّة (ت: 728هـ/ 1328م) وبعض السّلف، وحاكميّة المودودي وسيّد قطب، وحركيّة الإخوان في محاولة تغيير الأنظمة ذاتها.
هنا نشطت الأحزاب الإسلاميّة النّاتجة عن حركة الإخوان المسلمين، تحت مظلّة العمل الاجتماعيّ، وأسلمة الدّولة، والانفتاح على الوسائل العلمانيّة، وتبني العديد من الخطابات اليساريّة، ولكن تحت مظلّة عالميّة وشموليّة الإسلام، وليس تحت مظلّة القوميّة، كما تمدّد من الاتّجاه السّنيّ إلى الاتّجاه الشّيعيّ في حزب الدّعوة، والحركة الشّيرازيّة مثلا، ونشط الحراك الإخوانيّ الصّحويّ والحركيّ الإسلاميّ، وأصبح أكثر تمدّدا، وسيطر على الخطاب في الجامعات والكليّات، وكانت له منابره من خلال «الكاسيت»، والمنشورات والمجلّات الإسلاميّة، ولقي دعما سياسيّا في مواجهة الحركات اليساريّة، وغربيّا في مواجهة الاتّحاد السّوفييتيّ لاحقا.
هذا التّزاوج السّياسيّ بالحركات الإسلاميّة حدث له ثلاثة تشكلات في منطقة الخليج وما جاوره أثرت فيه، تشكل الجماعة السّلفيّة المحتسبة والّتي قادت إلى حركة الحرم 1979م، والخوف من تمدّد الجماعات المحاولة لإسقاط أدبيات روائيّة تأريخيّة كالمهدويّة، وتشكل نجاح الثّورة الإسلاميّة في إيران 1979م، والخوف من تمدّد تصدير الثّورة، ثمّ التّشكل المتمثل في تشجيع الشّباب للمشاركة في الحرب ضدّ الرّوس، باسم الحرب ضدّ الشّيوعيّة الملحدة، ممّا جعل المناخ أكثر تمدّدا للحركات الإسلاميّة، الصّحويّة الإخوانيّة السّنيّة كبديل عن جموديّة السّلفيّة المحتسبة، ومواجهة للتّمدّد الشّيعيّ الحركيّ، ولتأثيرها في الخطاب الجمعيّ ضد الرّوس والحركات اليساريّة والقوميّة، وفي الاتّجاه الشّيعيّ في تثوير المجتمعات، وتمدّد نظريّة ولاية الفقيه.
بيد أنّ حرب الخليج 1990م، واستعانة المملكة ودول الخليج بالأمريكان، وقيام قواعد أمريكيّة في المنطقة؛ تحول الصّراع مع الخارج: روسيا وإيران وإسرائيل، أي الشّيوعيّة والشّيعة واليهود، إلى بدايات الصّراع مع الحكومات الخليجيّة، وعلى رأسها المملكة العربيّة السّعوديّة، خاصّة وأنّ التّمدّد الصّحويّ الإخوانيّ أصبح أكثر تأثيرا لدى الشّباب والقاعدة الأفقيّة في المجتمع من الخطابات الدّينيّة الرّسميّة، فأصبحت هذه الحكومات أمام تحدّ جديد تمثل في ذات الحركات اليساريّة، ولكن تحت اللّباس الدّينيّ الإسلاميّ، لهذا في هذه المرحلة ولد التّيار الجاميّ والّذي يوجب طاعة وليّ الأمر، وعدم جواز الخروج عليه ما لم يظهر كفرا بواحا، كما لا يجوز النّصحية لولي الأمر في العلن، لما فيه من فتنة بين النّاس، وحرمة تشكل الأحزاب السّياسيّة والدّينيّة، ولقي هذا التّيار دعما سياسيّا، وأصبح يتمدّد شيئا فشيئا، مما ظهر له تحولان: التّحول المدخليّ والّذي بالغ في الجرح والتّعديل، من بينها تجريح الرّموز الصّحويّة والإخوانيّة وكل المذاهب الإسلاميّة بما فيها الأشاعرة والماتريديّة والمتصوّفة إلى حدّ تكفير بعضهم، وتحوّل الحداديّة -أي نسبة إلى محمود أحمد الحدّاد- وهذه توسعت من تكفير وتفسيق المعاصرين، إلى تكفير وتفسيق الأموات، حتّى داخل التّيار السّلفيّ ذاته، ولها حضور في وسائل التّواصل المعاصرة مثل: يوتيوب - تيك توك - انستجرام - تلجرام وغيرها، ممّا يحدثون تأثيرا على الشّباب وصغار السّنّ، من خلال خطابات محمّد شمس الدّين، وعبدالكريم الكثيريّ، وعبدالله الخليفيّ وغيرهم، وهؤلاء بين أنفسهم تناقضات، بيد الجامع بينهم مشترك السّلفيّة الجاميّة، وتوسع التّبديع والتّكفير المدخليّ والحدّاديّ، والاشتغال بالشّخوص وتجريحهم.
هذه التّجاذبات جميعا، منذ بداية ضرورة إرجاع الخلافة وأسلمة الدّولة عند الإخوان المسلمين، وتوسيع دائرة السّلفيّة ومحاربة البدع والفرق الضّالة وعدم موالاة الكفّار، ونواقض الإسلام العشرة عند السّلفيّة المعاصرة (الوهابيّة) بشكل عام، ومحاربة الأمريكان ومن يواليهم من الحكّام كما عند بعض الصّحويين والسّروريين، ثمّ التّوسع في محاربة المختلف وتبديعه، وقد يؤدّي إلى تشريكه وجواز دمه وماله كالمتوسلة من المتصوّفة والشّيعة والحركات الباطنيّة، كما عند المدخليّة والحداديّة؛ جميع هذه التّجاذبات أعطت إرثا عمليّا عند الحركات الجهاديّة، ابتداء من جماعة التّكفير والهجرة بشكل مبكر، إلى تكوّن القاعدة ثم داعش وتفرعاتها.
من حيث البنية التّبديعيّة والتّكفيرية قد يجد القارئ من الخارج شيئا من التّناقض، فالسّلفيون الصّفاتيون بدأوا بتبديع من يخرج عن نظريّة الصّفات من المعتزلة والأشاعرة والماتريديّة، إلى تكفير المستغيثة والمتوسلة من المتصوفة والشّيعة والحركات الباطنيّة، مع تكفير الاتّجاهات العلمانيّة واليساريّة، بيد أنّهم وقعوا في جدل بين تكفير الأعيان، وفي الاقتصار على التّكفير بالعموم، وبين تكفير وتبديع العامّة، وبين اقتصار ذلك على الخاصّة، بما في ذلك تبديع وتفسيق رموز الحركات الجهاديّة كما عند الجاميّة لخروجهم على ولاة الأمر، وإن وقعوا في تناقض في تبرير ذلك اضطروا إلى وجود مخرج لتكفير بعضهم تكفيرا بواحا، توسع فيه الصّحويون المسعريون مثلا ككتابهم «الأدلّة الشّرعيّة في تكفير الدّولة السّعوديّة»، وضيّقه بعضهم على بعض الاتّجاهات المذهبيّة والمعاصرة كالنّصيريّة والقوميّة اليساريّة والعلمانيّة، كما أنّ توسع المدخليّة والحدّاديّة في التّبديع والتّكفير أعطى مناخا خصبا للحركات الجهاديّة المتطرّفة، كذلك ضبابيّة مفهوم الخلافة والأسلمة واستدعاء حوادث تأريخيّة كالحرق والذّبح للأسرى، والرّجم وقطع اليد لبعض العصاة، والجزية لأهل الكتاب، والسّبيّ وقتل رجالهم لمن كان خارج أهل الكتاب، أو محكوم عليه بالشّرك، هذه مفردات ضبابيّة وتأريخيّة لقت ميولا ورواجا عند هذه الحركات المتطرّفة.
سنجد اليوم دول المنطقة تعيش في اضطراب آخر، وفي محاولة متفرقة ما بين من كان مغضوبا عليهم من الاتّجاهات الثّقافيّة، ومحاولة خلق أجواء ثقافيّة تحرّريّة، وبين من يحاول خلق تيارات دينيّة تتقبل الآخر المختلف، وتحاول تعميق الأبعاد الإنسانيّة والوطنيّة، بيد أنّ هذه الحالة قد تنقلنا من اتّجاه إلى اتّجاه آخر كما رأينا سلفا، وهي وإن كانت حالة صحيّة في العديد من جوانبها، إلّا أننا بحاجة اليوم إلى تفكيك بنية الخطاب الدّينيّ ذاته، بما فيه ذلك الخطاب الدّينيّ الرّسميّ؛ لأنّه بذاته يحوي مفردات تأريخيّة مبطنة غير ممنهجة تؤدّي إلى الاتّجاه نحو هذه الحركات المتطرّفة، كما أنّ التّطرّف العلمانيّ الشّموليّ يخلق فراغا لفئة كبيرة تميل إلى التّدين، وتجد ما يسدّ رمقها في خطابات هذه الاتّجاهات، وفي المقابل نجد الرّؤية التّقريبيّة والإصلاحيّة الحاليّة في رموز الجامعات والمجامع الإسلاميّة الكبرى، ومن جميع المذاهب الإسلاميّة، ما زالت تحاول تلميع المشترك، دون تقديم منهج نقديّ يفصلنا تماما عن تكرار مثل هذه الاتّجاهات الماضويّة والتّكفيريّة، أو يحدّ من توسعها، فكل المذاهب الإسلاميّة بلا استثناء لها سلفيّاتها قد تشترك بوجه أو بآخر مع مغذيّات الحركات المتطرّفة الحاليّة، ولا يقتصر فحسب عند السّلفيّة الصّفاتيّة.