الجسد

12 يونيو 2024
12 يونيو 2024

أعلنّا هذا العام ليكون عام اللاموضوعية، لاحقا صار عام الجسد؛ فمشاهد انتهاك الأجساد واستباحتها، في أرجاء وطننا العربي والعالم، صارت تخبرنا كيف أن «الكرامة» مرتبطة بمعانيها المادية في الأساس، فالجسد هو ما يقع عليه الأذى، يُجرح، يُحال إلى أشلاء.

يؤمن الطبيب، والمحلل النفسي فيلهلم رايش Wilhelm Reich أن كل ما اختبرناه، كل تاريخنا الذي نحاول نكرانه والتبرؤ منه، محفوظ على نحو ما في أجسادنا، ويؤكد أن التاريخ هنا لا يعني تاريخنا الشخصي، وإنما الاجتماعي أيضا. وهي فكرة يسهل أن نتوصل إليها بحدسنا، فنحن نكون في مواقف نجد فيها أجسادنا تنكمش على نفسها، أحيانا نُغالب خطوتنا ونحن ذاهبون إلى وجهة ما، ويزداد انقباضنا كلما اقتربنا منها، والعكس بالمثل، فنجد أجسادنا تنبسط، وأذرعنا مرحبّة في رفقة من نحب ونأمَن.

تأثر فرانز فانون Frantz Fanon برايش، في تشريحه للجسد المُستعمر والمُمايز عُنصريا. التشريح هنا لا تخلو من معناها الجسداني أيضا. المعنى الذي اختار بعض المُترجمين إهماله.

يُلفت ماثيو باومنت Matthew Beaumont في مقدمة كتابه How We Walk النظر لأعمال فرانز فانون والطريقة التي تُرجمت بها أعماله من الفرنسية للإنجليزية، وكيف أن الترجمات فرّغتها من حمولتها المادية والجسدية corporeal وحفظت معناها السلوكي وحده. على سبيل المثال، ترجمة position إلى «attitude» التي تعني «سلوك» عوضا عن ترجمتها لكلمة تحمل معنى وضعية «posture»، والتي تحمل معنى الانتصاب وقوفًا. يُجادل باومنت أن تجاهلنا للجانب الجسدي في لغة فانون يُهدد فهمنا لفكرته عن القهر العنصري والاستعماري.

يهتم باومنت في كتابه بالمشي. ويحاول استكشاف كيف أن السير سياسة. في عالم يُنظّم ويضبط. المشي كالتنفس -يقول- نفترض أنه نشاط مُرتجل وطبيعي. لكن فانون يرى فيه نشاط ثقافي يُعرّف ويُحدد عبر السياسات العنصرية في مجتمع الاستعمار القمعي.

يُجادل باومنت أن مأساة الإنسان اليوم لا تختلف مأساته في القرن التاسع عشر. وإن جسده مسلوب، ومشوه بنفس القدر. بالطبع الأمر يصل أقصاه بالنسبة لمن يقعون في قاع سلسلة الاستغلال، ومن يضحون -حرفيا- بحياتهم لقاء رفاه العالم. لكنه قد يعني أيضا أولئك الذين ترزح أجسادهم تحت القلق والاكتئاب. من تنقبض أجسادهم وهم يضعون الزي الموحد، أو زي رسمي لا يشعرون أنه يُعبر عنهم، من يقفون إذا ما دخل المسؤول، ويكونون آخر من يجلس، من يضطرون للجلوس لساعات طويلة خلف مكاتبهم، ما يُهدد صحتهم البدنية. يقال عن هذه الأمراض أنها وليدة هذا العصر. ونتساءل: هل كانت هذه الأمراض موجودة أصلا، ولكننا كنا نفتقر إلى الأدوات لتشخيصها، أو أنها مستحدثة، بمعنى أنها نتيجة للظروف الخاصة التي نعيشها. أو ربما تكون متطلباتنا «للموظف المثالي» تغيرت. إذ نضع أنفسنا في مقارنة مع هذا الموظف المعياري، الذي يملك قدرة فذة على التركيز، الذي يُنتج بكفاءة. الذي يُمارس الرياضة، ويأكل خمس حصص من الفاكهة يوميا. ويقع على عاتقنا عبء الاهتمام بآلات الإنتاج هذه (أجسادنا)، فنتأكد من أنها ترتاح 8 ساعات في اليوم، خلال الساعات التي يُقال إنها مثالية لإراحة الجسد. وأن نُعدها لترتاح بـ«الشايات» وطقوس ما قبل النوم الأخرى. أن نحذر من أن نُريحها أكثر أو أقل مما يجب. موظفنا المعياري، قادر على إنجاز المهام مهما يكن وضعه الشخصي. إذ لا مكان للمشكلات الشخصية، أو أن تسمح لنفسك بالانهيار تأثرًا بما يحدث في العالم من مآسي تفوق الاحتمال.

هذه دعوة لأن ننقد، لأن ننزع عن أجسادنا آليتها، ونستعيدها. لأن نحترم بوصلتها الخاصة، ونستمع لها بإنصات واحترام، ولأن لا نفكر بها باعتبارها شيئا ثانويا، أو مطية. بل بما هي عليه حقا: نحن.