الجرَّاحون يقاومون في غزة لأسباب الإنسان

13 مارس 2024
13 مارس 2024

يقاوم الجَرَّاحُونَ في غزة بما أوتوا من شرط الإنسانية وروح التطوع ونبالة المقصد، في الوقت الذي يفرض فيه كيان الاحتلال حصارًا جائرًا على القطاع يستقصد الإبادة الجماعية التي يشهد العالم على وحشيتها بصمت يُمَحِّصُ الشعوب الحية التي تفعل ما تستطيع من أجل إنقاذ ما تبقى من الأفعال النبيلة في هذا العالم. ليس ببعيد عن هذه الأفعال أن يذهب الجَرَّاحُ وحيدا - بواسطة منظمات تُعْنَى بالأطباء في مناطق الحروب - يحمل حقيبة سفره إلى مستشفى في غزة طالته يد الحصار بثقلها فنفدت عنه ذخائر الجراحة من أدوات وأَسِرَّةٍ ومواد ضرورية لإجراء أبسط العمليات الجراحية، فكيف وأهل غزة يُمْطَرُونَ كل يوم بأبشع أنواع الأسلحة المحرمة دوليا في بيوتهم ومساجدهم ومدارسهم ومستشفياتهم وحتى أماكن الإيواء وساحات الملاجئ ونقاط الإغاثة، لكنه الأمل الذي يحمل الجراح إلى ذلك القطاع الذي لا يزال الموت يتحسس ترابه كل حين، الأمل الذي يفرض عليه البقاء في مستشفى على فوهة النار، ومنه إلى مستشفى آخر حتى آخر المستشفيات الميدانية المعرضة لفجاءة القصف المدمر.

«إن إسرائيل تسعى لحرمان غزة من الخدمات المنقذة للحياة.. إنها تهدف لجعل غزة مكانًا غير صالح للحياة من خلال استهداف المستشفيات على وجه الخصوص» يصف طبيب الجراحة البريطاني ذو الأصل الفلسطيني غسان أبو ستة لوكالة الأناضول فظاعة الجرائم الإسرائيلية على قطاع غزة. تطوع غسان للذهاب إلى غزة عبر مصر مع منظمة أطباء بلا حدود في اليوم الثاني من بدء الحرب الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة، غادر هذا الجراح قلب القارة العجوز حيث يحمل الجنسية التي يمارس من خلالها مهنته الطبية مجازفًا بمستقبله الوظيفي أمام الإمبريالية الصهيونية التي تجثم بثقلها لممارسة أعتى أنواع الطغيان بأحدث الآلات المتطورة وأنظمة التجسس الذكية، لكنه الحنين إلى الوطن والوقوف مع الإنسان المظلوم أو لعله العودة إلى الذات التي تطاردنا بجرسها الأبدي مهما تاهت بنا الطرقات، شيء حتمي أن تنتصر النفس الخيرة للحقيقة الواضحة التي لا يماري فيها عاقل منصف فتتصاغر لأصوات الخطر إلى شجاعة المقاومة بالمستطاع من الفعل، لكن التمادي الصهيوني في حصاره على تلك المساحة الصغيرة والقصف العشوائي الحقود ما زال مستمرا وقد غادرها الجراح غسان مرغما بعد أن نفدت الأدوية ومواد التخدير. كتب على منصة «إكس» بتاريخ 19 نوفمبر 2023 باللغة الإنجليزية ما ترجمته: «لقد غادرت غزة بالأمس، قلبي وروحي ما زالا هناك مع مرضاي، سأقاتل حتى يتلقوا العلاج الذي يحتاجونه والعدالة التي يستحقونها، قلبي مكسور بطرق لم أكن أعلم أنها ممكنة من قبل»، هذه الكلمات الجياشة تعبر عن مشاعر ملايين الأحرار من العالم، لستَ بحاجة لأن تكون فلسطينيا أو عربيا أو مسلما حتى تنتابك هذه الأحاسيس، يكفي أن لك قلبا يميل للحق وللإنسان حتى تشاطرك الحياة هذه العاطفة.

يروي تيم جوديكار -استشاري الجراحة التجميلية والترميمية ونائب رئيس سابق للكلية الملكية للجراحين في إنجلترا- مشاهد عاشها في مستشفى غزة الأوروبي مع مصابي القصف الإسرائيلي المتكرر في مقال نشرته جريدة «عمان» بترجمة قاسم مكي، دخل تيم غزة بواسطة المنظمة الخيرية المعنية بالإغاثة الدولية في الكوارث والطوارئ مع الدعم طويل الأمد في نهاية شهر يناير وبداية شهر فبراير، أذهله انعدام أبسط الأدوات المستخدمة في أساسيات الجراحة وكيف أنه اضطر إلى بتر ساق فتاة يتيمة مخافة تلوث الجرح وانتشاره في جسدها بعد محاولات يائسة لإزالة الأنسجة المتهتكة بالشظايا، يوجه تيم نداء استغاثة بعد عودته من غزة التي قضى فيها أسبوعين فيتساءل: «هل لا يمكن لحكوماتنا إزالة العوائق البيروقراطية التي تعرقل تسليم المعدات المنقذة للحياة؟».

ليس ببعيد عنا أيمن السالمي جراح التجميل والترميم الذي عاد إلى أرض الوطن بالأمس بعد أن خاطر بحياته من أجل الوصول إلى غزة بواسطة منظمة عالمية، غادر السالمي من منطلق مبدأ إنساني فرضته البشاعة التي يمارسها الاحتلال الصهيوني في حربه الظالمة ضد أهل غزة حسب تعبيره في حديث مع جريدة عمان، كان يجري في كل يوم حوالي 10 إلى 11 عملية جراحية بمساعدة طاقم طبي في المستشفى الأوروبي بغزة، هذه نماذج لجراحين عايشنا يومياتهم وتابعنا مقاطعهم على وسائل التواصل أو مقالاتهم في الصحف العالمية ولا ريب في أن وراءهم الكثير ممن لم نعرفهم ولم نرهم لكننا نعلم علم اليقين أنهم عبروا النفق المظلم للوصول إلى الضوء الذي توقد في داخلهم من أجل الإنسان والحقيقة، ولهدف أسمى يتكرر في صلواتنا وصدقاتنا وكلماتنا وأحاسيسنا رجاء أن ينتصر صاحب الأرض على الاحتلال الدموي ويستيقظ الضمير العالمي فتكون له عين يبصر بها ويترجمها بالفعل النبيل.

عزان المعولي كاتب عماني