الثنائية العمانية السعودية.. صيرورة للاتحاد الخليجي
(الأيام القليلة المقبلة، تحمل أنباء سارة لكل أهل الخليج دون استثناء، فما تبنيه الشراكة العمانية السعودية من ثقة مستدامة، ستنعكس امتدادا على المحيط الخليجي، بل واليمني كذلك) لست مع الذين يرون أن كل أولويات الدول الخليجية الست الآن بعيدة كل البعد عن المسيرة الجماعية للمنظومة الخليجية، وأنها تنصب على الثنائيات فقط، ربما غرقوا في ما يظهر فوق السطح فقط، ولم يتعمقوا في طبيعة المرحلة الخليجية وماهيات تحدياتها الكبرى، الإقليمية والدولية معا، وبقليل من التفكير، فإن الثنائيات هي إحدى الوسائل الناجعة للوصول إلى الاتحاد الخليجي، ودونها لا يمكن الحديث عن وحدة أو اتحاد، كما أن القدر السياسي للدول الست أن تكون في تحالف بأية أشكال سابقا، والآن، لا بديل عن الاتحاد، ويندرج تطوير العلاقات العمانية السعودية، وتعميق ترابطها البنيوي ضمن المسارات المنتجة للاتحاد/ الوحدة، وليس بمعزل عنها، وتحمل زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي لمسقط، وطبيعة نتائجها، وما بعدها من محطات خليجية، مجموعة استدلالات أبني عليها رؤيتي سالفة الذكر.
من يذهب إلى الاعتقاد بتجاوز المنظومة الخليجية في أولويات الدول الست، فهو يغرق في سطحية المعطيات الثنائية داخل المنظومة، ومع خارجها الإقليمي، التي تظهر فوق السطح الآن، ويبدو مشهدها العام مخادعا، ومستفزا لحساسيات بعض الجغرافيا السياسية الخليجية، ومنفصلا عن هواجسها.. فكيف تتحول فجأة الخلافات إلى العشق والهيام، وهاتان المفردتان الأخيرتان نعنيهما دلالة ومعنى، ففجائية العشق والهيام غير المخطط والمدروس، قد يخشى أن تكون مآلات المصير مثل بداية المسير، ففجأة بدأ، وقد يختفي بالسرعة نفسها.
وكل من يتتبع الكثير من المسارات الخليجية الخليجية، والخليجية الإقليمية، سيرى مفردتي العشق والهيام في تحولات المشاعر والعواطف السياسية بارزة بصورة لافتة، وقد رصدتها في أقوال وأفعال سياسيين واقتصاديين ونخب عامة، فكيف انتقلت فجأة إلى الحب المفرط «العشق» وإلى العشق المجنون «الهيام» دون أن تتدرج في مراحل الحب التمهيدية؟ لا أستهدف هنا حصريا التحولات الخليجية الخليجية، الإيجابية بامتياز، وإن كنت أرى أنه ينبغي أن تكون حالتا العشق والهيام من رحم انعكاسات التحولات على الواقع المعاصر للدول ولشعوبها، وليست بصورة فجائية، خاصة إذا ما كان هناك تاريخ تتحس منه الجغرافيات السياسية، وتفرق الديموغرافيات، ويستوجب الحذر منه - أي التاريخ - في رسم العلاقات المعاصرة، طبعا دون أن يكون حاكما لها، وإنما حصانة لها، والفارق بينهما جوهري.
وهنا يحتم طرح تساؤل لاختبار النوايا السياسية، بهدف معرفة مدى وحجم المتغيرات والتحولات في القناعات السياسية الخليجية الخليجية الراهنة دون إسقاطها على طرف محدد بذاته، حتى لو استدعت الضرورة الإشارة إلى نموذج مخصص، وإنما أطرحه بصورة مجردة، ولدواعٍ تحليلية، وهو:
هل انتهت الأطماع الخليجية في بعضها البعض، سواء الجغرافية أو الحقوق المعنوية التاريخية؟ ومن الأهمية القصوى طرح هذا التساؤل حتى نتحكم في عشقنا وهيامنا الجديدين، وحتى نتيح للوقت نضوج التحولات والمسارات، واتضاح النوايا. وكل من يتابع مسيرة الأطماع التاريخية، وآخرها - وفق ما تناوله مؤخرا الزميل زاهر المحروقي في مقاله الأخير المعنون «مفارقات زنجبارية» سيدرك أننا نمنح العشق والهيام بشيكات بيضاء مستعجلة، ولا ينبغي أن يفهم أننا نطالب أولا بشهادة حسن نية قبل الانفتاح الإقليمي، بل العكس المضي قدما وبقوة، لكن بحذر، كأن يكون عشقنا وهيامنا مبنيا أولا على النتائج على الأرض.
أسلم بمبدأ الفرص التاريخية التي تنتج فجأة، وينبغي أن تستغل بسرعة، وليس من الحكمة السياسية تفويتها، لكن شرط أن تتوفر لها عوامل موضوعية متزامنة مع ولادتها الزمنية - أي الفرص التاريخية - وهذا شأن العلاقات العمانية السعودية المعاصرة التي تتأسس على معطيات جديدة غير مسبوقة؛ لذلك يستعصي على البعض فهم محركاتها الداخلية والخارجية، ودوافعها الثنائية والجماعية، بل وغاياتها من قبل كل دولة من جهة، وحاجة المنظومة الخليجية لها من جهة ثانية، والتحديات الناجمة عن التحالفات الأمريكية الجديدة من جهة ثالثة.
ويكفي الإشارة في هذا المقال إلى ملامح أساسية تقربنا للفهم العام، وتضع النقاط فوق بعض الحروف وليس كلها، وسأوردها في النقاط التالية:
- تلاقي فكر القيادتين في كلا البلدين على صياغة مستقبل جديد لبلديهما.
- القيادتان تتطلعان للمستقبل أكثر من الماضي ببراغماتية وواقعية، وبتأسيس لفهم مشترك للكثير من القضايا التي كانت توتر العلاقات بين البلدين.
- قدر القيادتين حكم دولتين إقليميتين مركزيتين في مرحلة بالغة التعقيد المالي والسياسي، والجيوستراتيجي، وما أخفي من إكراهات أعظم مما يظهر فوق السطح، لذلك ترابطهما الاقتصادي، ووحدة مواقفها تشكل ضمانة استقرار لهما، وللمنطقة الخليجية؛ لذلك لا يمكن أن تترك المنطقة تنشطر على شراكات عدائية أو خلافية، وهما الآن في طور مرحلة لملمة الأوراق التي بعثرتها الأزمة الخليجية الخليجية عام 2017.
لذلك لم يذهب بي التفكير إلى رهان البلدين على الطابع الثنائي الحصري، وإنما سيكون منطلقا للعمل الجماعي للدول الست، وبالعقل، فكيف لدولة بحجم الرياض تتمكن في يناير2021، من رأب الصدع الخليجي، وتنجح في تحديد سقف زمني متوسط المدى لتحقيق الوحدة الخليجية، أن تراهن على الثنائية بديلا عن المسيرة الجماعية؟
من هنا، يمكن أن نؤطر زيارة ولي العهد السعودي لبلادنا التي استغرقت يومين، بأنها زيارة ذات طابع ثنائي متعدٍ للخليجية الجامعة، فمن الثنائية، جاءت الزيارة لتدشن انطلاقة الشراكة العمانية السعودية بعد أن أسستها قمة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه، وأخيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في يوليو الماضي، وما بين زيارة عاهل البلاد للمملكة، وزيارة ولي العهد للسلطنة، مدة أربعة أشهر، وهي فترة زمنية قصيرة، وتدلل على رغبة البلدين في سرعة تنفيذ التأسيس؛ أي ما اتفقت عليه قيادتا البلدين في قمة العلا، وهنا ملحظ مهم جدا، وهو الدافع السياسي الذي يقف وراء التأسيس والانطلاقة للشراكة الثنائية. وقد كانت الأشهر الأربعة الماضية نموذجية في انكشاف المستقبل الجديد بين مسقط والرياض، وحتى هذا الانكشاف، كانت وراءه السياسة أيضا، ندلل على ذلك، التنسيق البنيوي المؤسساتي وبشكل مكثف بين البلدين، وقد كان من نتائجه التوافق الكبير للدبلوماسيتين العمانية والسعودية في القضايا الإقليمية والدولية، واستدلال آخر، وهو العمل المتواصل لمجلس التنسيق بين البلدين الذي أسسته قمة العلا العمانية السعودية قبل أربعة أشهر، وما توقيع «13» اتفاقية بين البلدين بقيمة استثمارية تبلغ «10» مليارات دولار، أثناء زيارة الأمير محمد بن سلمان لمسقط، إلا نتائج ملموسة لهذا العمل المؤسسي بين البلدين. ولا يعكس مسمى مجلس التنسيق العماني السعودي الأهداف المنوطة عليه، ولا طبيعتها، وربما كان ينبغي أن يكون مسماه ما يعكس مضامينه الكبرى، فهو يعد المظلة والمرجعية المناطة على عاتقها إقامة علاقة عميقة وأساسية بين البلدين ذات نفع متعدد ببناه الأساسية، وفوائده الملموسة، ونقترح أن يعاضده مركز أو لجنة استشارية تضم الحقول الاجتماعية والدبلوماسية والفكرية لضخ الأفكار والرؤى والمقترحات التي تحصن الشراكة واستدامتها، ومن مجمل الزوايا السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والجيوسياسية والجيوستراتيجية.
ومن الواضح أن البعد الاجتماعي في هذه الشراكة سيكون تحصيل حاصل التطورات الاقتصادية، وليس مستهدفا لذاته وبصورة مباشرة، من هنا يكمن أهمية المقترح، وذلك لحاجة الثنائية لفكر مشترك متفرغ، يعزز من الانعكاسات الاجتماعية، ويبحث في نتائج الثنائية على صعيد التكامل الخليجي، وتجنب صراع المصالح، أو تضارب تلاقيها داخل بلادنا، والحاجة ذاتها، تستدعيه لمواجهة التحولات الفكرية داخل المنطقة الخليجية، ومخاطر الأجندات الأجنبية للفاعلين الجدد والقدامى الذين يحاولون إحداث متغيرات فكرية وديموغرافية لدواع مستقبلية.
وهناك استدلال آخر نقدمه من رحم الثنائية العمانية السعودية، وهو انطلاق جولة الأمير محمد بن سلمان الخليجية بعد مسقط، وهذا عامل يعطيني الحق في الذهاب باستشرافي إلى القول إن الأيام القليلة المقبلة، تحمل أنباء سارة لكل أهل الخليج دون استثناء، فما تبنيه الشراكة العمانية السعودية من ثقة مستدامة، ستنعكس امتدادا على المحيط الخليجي، بل واليمني كذلك.
والثقة بين مسقط والرياض، تتأسس الآن على إقامة بنيات تحتية ذات نفع مشترك، نذكر على سبيل المثال، افتتاح المنفذ البري الوحيد بين البلدين، واختصاره نحو 800 كيلو متر، والتوقيع على «13» اتفاقية كلها أغلبها ذات أبعاد استراتيجية، ومن خلالها نراهن على الثقة، وديمومتها، وقدرتها على مواجهة كل التحديات المستقبلية التي قد تعترض علاقات البلدين، فالرياض قد وضعت ثقلها على الجيوستراتيجية العمانية، وبالذات الجغرافيا المطلة على بحر العرب والمحيط الهندي، لذلك سيتم ضخ « 10» مليارات دولار لمشروعات من الوزن الثقيل، مثل: تخزين النفط، وإقامة مشروعات مثل الغاز والبتروكيماويات، واللوجستية والنقل البحري.. الخ.
والثقة التي ستنتجها مثل تلكم المشروعات الاستراتيجية، ستكون كفيلة بتحطيم الكثير من العقبات التي كانت تقف وراء عدم تحقيق الوحدة الاقتصادية سابقا، والآن طموحات الاتحاد الخليجي، وستدفع بهذا الاتحاد إلى معانقة حتمياته الشاملة بما فيها العسكرية والمواطنة الخليجية الكاملة.. فلنترقب نتائج جولة ولي العهد السعودي للدول الست، ونتطلع من الآن إلى القمة الخليجية المقبلة في الرياض في الرابع عشر من الشهر الحالي، فكل الاحتمالات الإيجابية الكبرى قائمة الآن.
* كاتب عماني مهتم بالتحولات السياسية والاجتماعية في منطقة الخليج العربي