الثقافة وحقوق الإنسان
نشرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بيانا بشأن "حقوق الإنسان والتنوع الثقافي" في يناير 2022، الذي تُسلِّم فيه من بين مجموعة من توصيات جلستها العامة (53)، أن "احترام التنوع الثقافي والحقوق الثقافية للجميع يُعزِّز التعدد الثقافي، ويُسهم في توسيع نطاق تبادل المعارف وفهم الخلفيات الثقافية، وينهض بتطبيق حقوق الإنسان المقبولة عالميا والتمتع بها في جميع أنحاء العالم ...". إنه بيان يربط بين حقوق الإنسان والثقافة باعتبارهما أساس الهُوية الوطنية التي (يُعرب) البيان عن أهميتها في ظل سُلطة (العولمة) التي تفرض مجموعة من التحديات الثقافية أمام تلك الهُوية وبالتالي أمام الحقوق الإنسانية.
إن العلاقة بين حقوق الإنسان والثقافة تتأسس وفق معطيات التنوع الثقافي الذي تقوم عليه المجتمعات، والذي يُعد مصدر إثراء للثقافة، وأساس التنمية القائم على احترام أفراد المجتمع كلهم. لذلك فإن مفهوم (العقد الاجتماعي) يقوم على تلك المرتكزات الثقافية التي أسهمت في الحفاظ على السلام والتعايش ليس بين أفراد المجتمع وحسب، بل أيضا بين الأمم المختلفة؛ حيث تتقاسم الثقافات والحضارات مجموعة مشتركة من القيم تصفها الأمم المتحدة بـ (العالمية)، لأنها قيم تحقق السلام والتفاهم والصداقة بين الشعوب.
ولأن سلطنة عُمان من بين الدول التي تحتفي بالثقافة والتنوع الثقافي وتعي تماما أهميته باعتباره حقا من الحقوق الإنسانية، فإنها تجعل من هذا التنوع أحد أولويات العمل الوطني القائم على احترام الفكر الإنساني المتنوع، على المستوى الإثني والعقائدي والبيولوجي بل وحتى الجيولوجي والجغرافي الذي ينعكس على الممارسات الثقافية والاقتصادية للمجتمع العماني. إنه تنوع يُشكِّل إثراء تنمويا يقوم عليه التطوير الحضاري والمعرفي، وبالتالي فإن المطلِّع على الرؤى المستقبلية خاصة رؤية عمان 2040، سيجد أن هذا التنوع يُشكل ركيزة أساسية في التنمية المستقبلية للمجتمع العٌماني على مستوى المؤسسات والأفراد. إنه تنوُّع يكتسب الأولوية كونه يقوم على صفتي (العدالة) و(المساواة)، وبالتالي ضمان الحقوق الإنسانية.
نشر الباحث (إيلني بوليمان بولو) في مجلة (مراجعة قانون سانتاندر للفنون والثقافة) بحثا لافتا بعنوان (التنوع الثقافي من منظور حقوق الإنسان والإعلام والقانون التجاري. الإثراء المتبادل أم الصراع)، وهو بحث يركِّز على الاهتمام العالمي بمصطلح (التنوُّع) من خلال سبر متابعته في محرِّك البحث (جوجل)، حيث اعتمد فيه على البحث عن تعبير (الغوَّاص الثقافي)؛ الذي يُظهر أكثر من (37) مليون نتيجة، مقارنة بتعبير (قانون حقوق الإنسان) الذي يُظهر (10) ملايين فقط – بحسب البحث -، ولهذا فإن الباحث يدلِّل على ذلك بالعديد من المعطيات التي تُبرز تفوُّق (التنوع) الذي يطغى على الحياة المجتمعية حتى على المستوى القانوني المتعلق بالحقوق.
إن (التنوع) باعتباره فكر مجتمعي يعتمد على احترام الآخر وتقدير فكره، ولأنه كذلك فإنه يفرض نفسه بوصفه معيارا أساسيا للنظام الاجتماعي والقانوني بل وحتى الاقتصادي؛ ذلك لأنه يعتمد على مجموعة من القوانين والتشريعات في الدول بدءا من الأنظمة الأساسية أو الدساتير الدولية، وليس انتهاءً بالقوانين المتعلقة بحقوق الإنسان والقوانين الثقافية والإعلامية، فالمحافظة على التنوع يدُّل على (كفاءة) الدولة، وقدرتها على فهم أولوياتها الوطنية؛ ذلك لأن (التنوع الثقافي) يدل – حسب بولو – على (التراث المشترك للإنسان، فهو لا يعني التمايز بقدر ما يشير إلى تلك السمات العامة المشتركة بين أفراد المجتمع. إنه أساس مفهوم (المواطنة) التي تدفعنا إلى احترام تنوعنا وفق معطيات مجتمعية عامة، وضمن مبادئ قيمية راسخة، تجعلنا متشابهين رغم الاختلاف.
ولهذا فإن (إيلني بولو) وفق بحثه الآنف الذكر يعتقد أن (التنوع) يأتي ضمن أبرز (20) كلمة (شهيرة) على (مستوى السياسة وسن القوانين)، والتي بدت الأكثر شيوعا منذ التسعينيات. ولأن (الثقافة) تشير إلى (الإبداع والفنون والعلوم) فإنها ارتبطت بالتنوع، واعتمدت عليه في علاقتها بحقوق الإنسان، وقدرتها على التنمية المجتمعية، ولهذا كان التنوع وما يزال الأساس الذي يقوم عليه مفهوم (السلام) و (الحوار بين الثقافات)، ولعل هذا ما دفع منظمة الأمم المتحدة عندما قررت تخصيص العام 2001 عاما للحوار، أن تربط رسميا بين (التنوع)، و(الحوار بين الحضارات) في مؤتمر (التحديات المشتركة التي تهدد القيم البشرية) الذي عقدته آن ذاك، والذي أعلنت فيه إلى أن (احترام التنوع) ينبغي أن (يحدث في مناخ من التسامح والحدود والتعاون، فضلا عن الثقة والتفاهم المتبادلين).
ولأن الدول تقوم على التنوع وتزدهر به، فإن الحكومة الرشيدة جعلت منه أساسا اجتماعيا قبل كل شيء، وفرضت احترامه، وعظَّمت مكانته عبر أسس قانونية وتشريعات مُلزمة، لذا فإن (احترام التنوع) من أبرز السمات التي يتميز بها المجتمع العماني، والتي ترسخَّت عبر الأجيال خاصة في العصر الحديث، الذي قامت عليه النهضة الحديثة للدولة، فلا عجب أن نجده سمة أساسية يتحلى بها الفرد فطريا – إن جاز لنا التعبير-، غير أن انفتاح المجتمع مؤخرا على وسائل التواصل الاجتماعي، وقلة إدراك البعض لأهمية (التنوع)، وارتباطه بـ (حقوق الإنسان) من ناحية، و(المواطنة) من ناحية أخرى، جعلت فئة من المجتمع ينظر إلى بعض الممارسات الثقافية التي يقوم بها الأفراد في بعض المحافظات أو الولايات باعتبارها (دخيلة) على المجتمع.
والحق أن الذي يصف الممارسات الثقافية الأصيلة في مجتمع متنوع ثقافيا، ضارب في التاريخ الحضاري مثل عُمان، بأنها (دخيلة) أو (مستحدثة) فإنه لا يُدرك أهمية احترام القيمة المعرفية للأفراد، لأنه بعيد عن مفهوم (التنوع) الذي يرتبط بكيان الإنسان نفسه، ولهذا فإن الوعي بمفهوم (الثقافة)، وارتباطه بالتنوع والحقوق، سيساعد المجتمع على تخطي الكثير من التحديات المعرفية، وبالتالي الاجتماعية، وبدلا من انتقاد التنوع الثقافي ومحاربته، علينا أن نُسهِم أفرادا ومؤسسات خاصة الإعلامية منها في تعزيزه، وتعظيم أثره الوطني، خاصة في خضم الظروف الصحية والبيئية الحالية التي تعاني منها البشرية، فـ (التنوُّع) يُعد أحد الفرص التي علينا المحافظة عليها، وتطويرها من خلال الإبداع والابتكار.
وعلى الرغم من أن (العولمة) أحد أهم التيارات المعرفية التي يقودها السوق العالمي، والتي تُعد من أبرز تحديات الثقافات الوطنية، فإن علينا الموازنة بين الانفتاح على تيارات العولمة والحفاظ على الهُوية الوطنية، ولن نستطيع ذلك ما لم نعي أهمية (التنوع الثقافي) وأثره الاجتماعي والاقتصادي؛ فالتنوع ينعكس على تلك الممارسات الاقتصادية المرتبطة بالتخطيط الحضري للمدن، وبالتالي فهو المسؤول عن تنوُّع الإنتاج الاقتصادي بين ما تُنتجه البيئات المختلفة. إنه إنتاج يعتمد على قدرة أفراد المجتمع على التمسك بالتنوع واعتباره أحد سمات ثقافته وهُويته الوطنية.
إن وعي المجتمع بالحقوق الإنسانية المرتبطة بـ (التنوع الثقافي)، تدفعه إلى أن يكون أكثر قدرة على احترام الآخر، وزيادة (التفاهم)، و(التسامح)، بل ويُعزِّز الجهود الإبداعية الرامية إلى التنمية والتقدم الإيجابي، فالتنوع الثقافي أحد أهم مرتكزات بناء الدول التي قامت على مفاهيم حضارية ضاربة في القِدم، وهكذا هي سلطنة عُمان، قامت على التسامح لأنها آمنت بأهمية التنوع الثقافي في الدولة، وقدَّمت أنموذجا عالميا في حماية حقوق الإنسان وتنمية الفكر الإنساني المتنوع.
فلنكن داعمين لأهدافنا الوطنية، وليكن اختلافنا المعرفي تنوعا مثريا لثقافتنا العمانية الأصيلة.