الثقافة في المدن الحديثة
شهدت سلطنة عُمان تنمية عمرانية واسعة منذ بداية السبعينات، وتميَّزت تلك التنمية بأنها شاملة وقادرة على التطوير والتوَّسُع، ولهذا فإن الرؤية الوطنية «عمان 2040» تنطلق من مكتسبات تلك المرحلة إلى مرحلة حديثة، تنشد الاستدامة واستخداما أمثل للتقنية والتطورات التي يزخر بها القطاع العمراني على مستوى العالم، فبناء المدن وتطويرها يشهد الآن متغيرات عدة خاصة بعد ما مرَّ على العالم من تحديات اقتصادية وصحية واجتماعية، جعلت من أهمية تعزيز الازدهار الحضري ضرورة وغاية مهمة للمجتمعات.
وانطلاقا من الأولوية الوطنية (تنمية المحافظات والمدن المستدامة)، التي تتأسس على إدارة المدن التي (تساعد على تسريع وتيرة النمو والانفتاح على الأسواق العالمية من خلال تهيئة بيئات إنتاجية لجذب الاستثمارات العالمية، وزيادة الكفاءة الاقتصادية، وتهيئة بيئات ملائمة للعيش، والحفاظ على نهضة المدن بيئيا واجتماعيا) - حسب وثيقة الرؤية - فإن تأسيس (مدن ذكية ومستدامة نابضة بالحياة وريف حيوي بجودة عمرانية عالية للمعيشة والعمل والترفيه)، جاء هدفا أساسيا من تلك الأولوية التي تقوم عليها «رؤية عُمان 2040»، ولهذا فإن الاستراتيجية الوطنية للتنمية العمرانية، اتخذت من تلك الأهداف ركائز للتخطيط وفق منهج المرونة والاستدامة والتوازن، إضافة إلى التنافسية، وفتح فرص وظيفية وأنماط جديدة للتنقُّل، تحفظ نظافة البيئة وتساعد على تيسير سبل العيش، وبالتالي تُؤَمِّن الرفاه الاجتماعي.
ولأن الرؤية العمرانية لعمان كما جاءت في الاستراتيجية الوطنية للتنمية العمرانية قائمة على مفهوم (عُمان الغد)، التي (تُصبح وجهة حيوية جاذبة بما تحويه من مدن عصرية ذكية، وقرى نابضة بالحياة....)، فإنها على المستوى الاجتماعي والثقافي لا يمكن أن تنطلق نحو العصرية إلاَّ إذا ثمَّنت هويتها الوطنية وثقافتها من خلال (المحافظة على بيئتها الطبيعية وموروثها الثقافي للأجيال القادمة) - بحسب الاستراتيجية - وعليه فإن هذه الرؤية تربط بين أهداف تطوير المدن والقرى، وإنشاء المدن الحضرية الحديثة، والتنمية الثقافية بما يُعزِّز الهُوية الثقافية الوطنية والقيم الحضارية للمجتمع العُماني.
ووفقا لمؤشر المنافسة العالمية بين المدن (Global Power City Index 2022)، فإن تقييم وتصنيف المدن في العالم يقوم على قدرتها على جذب الناس ورؤوس الأموال والشركات للاستثمار، وذلك وفق ستة معايير أساسية هي (الاقتصاد، والبحث والتطوير، والتفاعل الثقافي، وقابلية العيش والبيئة وإمكانية الوصول)، وهي معايير يقوم عليها تخطيط المدن من النواحي الاجتماعية والصحية والاقتصادية والثقافية، بما يضمن قوة تلك المدن، وقدرتها على توفير وسائل العيش الكريم والترفيه والرفاهية، ولهذا فإن المدن الحديثة تتخذ من تلك المعايير أساسا تبني عليه آفاق التوازن والاستدامة والمرونة.
ولأن الثقافة جزء أصيل في التنمية المستدامة، فإنها ترتكز في التخطيط العمراني على تلك العلاقات التنموية التي تربطها مع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وهي علاقات لا تقوم على أهمية الفنون والتراث ومجالات الثقافة المتعددة وحسب، بل على الفكر الوطني الحضاري الذي تتأسس عليه تلك الثقافة من القيم والتطلعات والهُوية الثقافية التي تظهر من خلال تلك المجالات، وبالتالي فإن العلاقة بين الثقافة والتنمية الحضرية المستدامة، تتخذ مجموعة من الأشكال تقوم على الإرث الحضاري، وتتخذ أنماطا متعددة منطلقة من الوعي الاجتماعي بأهمية الثقافة في حفظ الهُوية الوطنية، وقدرة المجتمع على تأصيل تلك الثقافة من خلال مجموعة من الممارسات، تظهر في أشكال التعبير وتطوير الفنون وممارستها وفق متطلبات حماية الثقافة الوطنية وتطويرها، باعتبارها أحد أهم مرتكزات التنمية الحضرية.
إن الثقافة في علاقتها بالتنمية الحضرية تقوم على فتح فرص التنمية الثقافية في المدن والقرى، والتي تُسهم في حماية الحقوق الثقافية، وقدرة الأفراد على المشاركة في صنع القرار الثقافي، وتمكين دورهم في الحفاظ على ثقافتهم الوطنية والحضارية، التي يمكن أن نجدها في ذلك الاهتمام المتزايد الذي توليه الدول في تأسيس البنية الأساسية الثقافية من مراكز وصالات عرض ومسارح وغير ذلك من المرافق التي تمكِّن المبدعين من الحصول على حقوقهم، وتضمن زيادة مشاركتهم الفاعلة في التنمية الثقافية، وقدرتهم على تأصيل الثقافة الوطنية وزيادة الوعي بأهميتها من ناحية، وتطويرها وفقا للمعطيات الحديثة من ناحية أخرى.
ولهذا فإن العلاقة بين الثقافة والتنمية الحضرية تتأسس ضمن تلك العلاقة بين الثقافة وأبعاد التنمية المستدامة والنمو الاجتماعي والاقتصادي في الدولة؛ ذلك لأن المجتمعات هي المسؤولة عن تنمية الثقافة والحفاظ على مسارات تطورها، والأمر يزداد أهمية في المدن الحديثة التي تنشد تطلعات الشباب وطموحهم، وقدرتهم على المشاركة التنموية، فحاجتهم إلى الممارسة الثقافية الإيجابية في المدن التي لا ترتبط ثقافيا بالموروث الذي يمكن رؤيته بسهولة في المدن القديمة حضاريا، تزداد بازدياد الحاجة إلى فتح آفاق ورؤى المجالات الثقافية الوطنية الحضارية.
ولأننا نشهد تطورات عمرانية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية، تكشف الرؤية الحديثة المتطورة القادرة على فتح آفاق جديدة في التنمية الحضرية المستدامة، فإن الإعلان عن (مدينة السلطان هيثم)، يُشكِّل منعطفا حضاريا مهما على مستوى التنمية العمرانية في عُمان؛ ذلك لأنها مدينة مستدامة تعتمد على مجموعة من المعايير العالمية الحديثة، والتي ستكون منطلقا أساسيا للمدن الذكية التي تستهدفها الرؤية الوطنية «عمان 2040»، ولهذا فإن هذه المدينة تشكِّل فارقا حضاريا يتطلَّع إليه المجتمع خاصة فئة الشباب، الذين تستهدفهم المدينة.
إن مدينة السلطان هيثم بما تتميَّز به من رؤى حديثة قائمة على صناعة مدن ذكية مستدامة تضمن جودة الحياة الكريمة، وتُعزِّز الميزة التنافسية بين الحواضر والمحافظات العمانية؛ تقوم وفق تنمية متوازنة ممكَّنة، تضمن التشاركية والتفاعل الاجتماعي الإيجابي بين أفراد المجتمع، ولأنها مدينة عصرية فإنها ترتكز على مجموعة من المعطيات الرقمية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية، وفق رؤية هندسية معمارية قائمة على الموروث الثقافي، والحياة الطبيعية في عُمان، وتتخذ من الرفاه الاجتماعية غاية لها، بما يتناسب مع تطلعات الشباب لحياة عصرية حديثة ذات أنماط بصرية تجسِّد الرؤى المستقبلية للتنمية العمرانية.
وعلى الرغم من أن هذه المدينة بما تمثِّله من أهداف تنموية واعدة على المستوى العمراني، وما تتميَّز به من معطيات على المستوى الاجتماعي والصحي والاقتصادي والثقافي العام، إلاَّ أنها كانت فرصة مهمة لتطوير التنمية الثقافية في المدن والحواضر؛ ذلك لأن صناعة المدن تقوم على مجموعة من الركائز من بينها الثقافة، فهي الركيزة التي ترتكز عليها المجتمعات لتطوير هُويتها وفق ضوابط ثقافتها الوطنية، فقد كان من المؤمَّل أن تشمل رؤية التنمية العمرانية لتأسيس المدن الحديثة ما يضمن الحفاظ على الموروث الثقافي، وتطوير أنماط الثقافة الوطنية ومجالاتها، ولهذا فإن المدن المستدامة الحديثة تتخذ من ركيزة الثقافة أساسا ليس فقط للهندسة المعمارية وحسب، بل أيضا لتطوير الصناعة الثقافية وتشجيع الشباب للمشاركة الفاعلة في الحفاظ على الثقافة الوطنية وتنميتها.
إن الثقافة باعتبارها أساسا من أسس التنمية العمرانية، عليها أن تشكِّل محورا أساسيا في صناعة المدن الذكية المستدامة، من خلال دعم البنية الأساسية وإنشاء المراكز والمسارح التي لا تخدم هذه المدن وحسب، بل أيضا تُسهم في دعم قطاعات الثقافة في المدن الحضرية الأخرى، بحيث تشكِّل نواة حديثة متطورة، تتكامل مع المنشآت الثقافية الأخرى في المحافظات، وتُسهم في فتح فُرص التنمية الثقافية، ودعم تطلعات الشباب على مستوى الإبداع والابتكار الثقافي.
عليه فإن علاقة الثقافة بالتنمية العمرانية، تقوم على أسس بناء تنموي، قادر على فتح آفاق وفرص واعية للشباب، خاصة في المدن المستدامة الحديثة، التي تنشد رؤى مستقبلية تقوم على ترسيخ الهُوية الوطنية والحفاظ على القيم والأخلاق الحضارية، ولهذا فإن الرؤى العمرانية تتحمَّل مسؤولية كبيرة في الحفاظ على تلك الهُوية من خلال ما تقدمه من معطيات إنشاء وبناء وتأسيس عمراني ثقافي، سيكون له الأثر المستقبلي ليس في الحفاظ على الهُوية الثقافية الوطنية وحسب، بل أيضا في تنميتها وتطويرها وفق معطيات تنموية واعية وإيجابية.
إن الحياة في المدن المستدامة ترتكز على الثقافة، وتقوم على فتح آفاق ثقافية جديدة، تُسهم في بناء أجيال واعية مثقفة مبدعة، فبناء المسارح أو صالات العرض أو المراكز الثقافية الأخرى المتطورة والمبنية على أحدث التقنيات، تسهم في رفاه المجتمع، وتفتح فرصا للوظائف الإبداعية، كما تفتح مجالات الإبداع والابتكار للشباب، بما يضمن التوجيه الإيجابي لطاقاتهم الخلاقة، ومشاركتهم الفاعلة في التنمية المجتمعية.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة