الثـقــافـة الـفـعـل والثقـافـة التـفـاعــل
الثّـقافـة فـعْـلٌ ذهـنـيّ وجمـالـيّ يقـوم بـه فـردٌ أو جمـاعـة للتّـعبيـر عـن فـكـرةٍ أو شـعـورٍ أو تـصـوُّر؛ وهـو فـعْـلٌ يـنـشـأ منـه أثـرٌ أو منـتـوج هـو عـيـنُـه المـعـبَّـرُ عنـه في تلك العـملـيّـة الـذّهـنـيّـة أو الجماليّـة التي نـصنّـفـها في خـانـة الثّـقافـة. إنّـها، إذن، تـشيـر إلى حـالتـيْـن: إلى الإنتـاج بـما هـو فاعـليّـة، وإلى المنـتـوج بوصـفـه ثمـرة تلك الفاعـليّـة. لذلك تكون معـرفـةُ ثـقـافـةٍ مّـا معـرفـةً للحالتـيْـن تـيْـنِـك اللّـتيـن تـتـمظـهر فيـهما: معـرفة لأنظمـة التّـفـكـير والتّـعـبيـر والإبـداع فيـها، ومعـرفـة لجمـلـةِ ما تُـنـتِـجـه مـن آثـار ثـقـافـيّـة: فـكـريّـة وأدبـيّـة وفـنّـيّـة. يـتـبـدّى الـفعـلُ الثّـقافيّ في صـورة ابـتـكـارٍ لرؤيـة جـديـدة غير مسبـوقـة: ذهـنـيّـة أو تـعـبـيـريّـة جماليّـة (أدبـيّـة، فـنـيّـة)، تـأتـي إلى الإدراكِ والتّـداوُل وكـأنّـها مـولـودٌ جـديـد، تـمـامـًا كما يـأتـي اختـراعٌ جـديد لم يُسبَـق إليه. غيـر أنّ الفـعـل الثّـقافـيّ يمـكـن أن يـأخـذ - في أحيـانٍ أخـرى - شكـلَ إعـادةِ صـوْغٍ لمنـتـوجٍ قائـم، فيـبـدو- حـينـها- وكـأنّـه يَخْـلَـعُ معـنًـى جـديـدًا على أشـياء الثّـقافـة وأدواتـها وأدوارها. وفي هـذه الحـال، لا يخـرج معـنى الفـعل الثّـقافـيّ عن نطـاق الـفعـل الخـلاّق والمبـدِع؛ ذلك أنّ إسـباغ مـعنًـى جديد على الأشياء لا يمـكـن أن يكـون شيئـًا آخـر غير خـلْـقـه.
لـكنّ الثّـقافـة ليسـت فـعـلًا، فحسـب، يقـوم بـه أفـراد (مفـكّـرون، مبـدعـون) وجمـاعـات (نـخـب ثـقـافـيّـة)، بـل هـي إلى ذلك عمـليّـةٌ من التّـفاعـل بيـنها وثـقافـاتٍ أخـرى عـدّة: في المحيـط المبـاشـر أو البـعيـد؛ في الزّمـن الحاضر أو في الزّمن الماضي. قـد يُـفْـصـح هـذا التّـفاعـل عـن نفسـه، في حـدٍّ أدنـى منـه، في اتّـخاذ ثـقـافـةٍ مّـا ثـقـافـاتٍ سابـقـةً أو مـتـزامنـةً مصادرَ لـها تـمـتـح منـها؛ وفي هـذه الحـال يكـون فـعْـلُ الانـتـهال شكـلًا من أشكـال التّـفاعُـل بين ثـقـافـةٍ تسـتـقـبـل التّـأثـير وأخـرى تمارسـه عليها. على أنّ الغـالـب عليه أنّـه تـفاعُـلٌ يُـفـصـح عـن نـفـسـه من طـريـق حـوارٍ مسـتـمـرّ، صامتٍ أو جـهيـر، بيـن ثـقـافـةٍ مّـا وغيرها من الثّـقـافـات. وليس شـرطـًا لأن يسـتـقيـم مـثـلُ هـذا الحـوار أن يـكون بين ثـقـافـات متـعـدّدة، بـل كـثيـرًا ما يجـري داخـل الثّـقافـة الواحـدة بين أزمـنـةٍ منـها مختـلـفـة، ومنـه - مـثـلًا - حـوار ثـقـافـةٍ مّـا مع تـراثـها. كمـا أنّـه ليس يُـشْــتَـرَط في ذلك التّـفاعـل أن يكـون بين ثـقـافـات متـعاصـرة، فـقـد يـنـشـأ بين أيّ ثـقـافـةٍ في الحاضـر وثـقـافـاتٍ أخـرى تـنـتـمـي إلى أزمـنـةٍ من الماضـي، ومن ذلك تلك الأشكال المخـتـلفـة من تـفاعُـل ثـقـافـات العالـم الحديثـة مع الثّـقـافـات اليـونانيّـة والهنـديّـة والصّـينـيّـة والرّومانـيّـة والعربـيّة. في كـلّ حـال، يـتـرتّـب على القـول إنّ الثّـقافـة تـفاعـلٌ وليس محـض فـعْـلٍ فـقـط اسـتـنـتـاجٌ مـفـادُهُ أنّ الفعـلَ الثّـقافـيّ نـفـسَـه غـيرُ مـمـكـنٍ أو هـو عـسيـرٌ، على الأقـلّ، إنْ هـو لم يُـبْـنَ على قـاعـدتـه الأساس: تـفـاعـلُ الثّـقافـة مع خـارجـها الثّـقـافـيّ.
هـذا يـتـأدّى بـنـا إلى القـول إنّـه ليس هنـاك إنـتـاجٌ ثـقـافـيّ يمكـن أمـرُه من دون منـتـوجٍ ثـقـافـيّ مُـتَـلَـقَّـى: إمّـا مـن الأقـدميـن أو مـن المعاصريـن. وبيـانُ ذلك أنّـه مـا مـن ثـقافـةٍ تـنـشـأ في بيئـةٍ بِـكْـرٍ خالـية من آثـار التّعـبـير الإنـسـانيّ، ولا هناك ما يمكـن أن يشبـه البـدايـةَ الصِّـفـريّـة في أيّ ثـقـافـة؛ بـل إنّ الثّـقافـة تـتـكـوّن بالتّـلـقِّـي والاستقـبال، وتـتـطـوّر بالإنـتـاج والإبـداع؛ إذِ الـفاعـل في حـاجـة دائمـة إلى مـا يُـغـذِّي مَـلَـكَـة الفـعـل عـنـده، على نحـوٍ يـبـني فيه اللاّحـقُ على السّابـق ويـتـزوّد مـمّـا خَـلَّـفه مـن الموارد. على ذلك، يـوجـد في كـلّ ثـقـافـةٍ شـيءٌ وافـدٌ عليـها مـن خارجـها حتّى وإن لم تُـدْرِك مصـدريّـتـه، أو لم تستـوقـفـها، وحتّى حينما تـنـجح في توطيـنـه فيـها؛ ذلك أنّ الوافـد ذاك - المستَـبـطَـن والمـنـدمـج فيـها- كـان مـن المـوارد التي بـها قامـت تلك الثّـقافـة وحَـصَل لها الوجـود. ولـمّـا كانت مناهـلـها متـعـدّدةَ اليـنابـيع ومخـتـلفـةَ الأزمنـة، كان لا بـدّ - بالتّـبِـعـةِ - مـن أن يَطْـفَـح حضـورُ مصـدرٍ مّـا من مصادرها، وأن يكـون له الأثـرُ الأَظْـهـرُ أكـثـر من غـيره كلّـما مـرّت تلك الثّـقافـةُ بحقـبـة زمنـيّـة جـديـدة من تـطـوُّرها أو انـتـقـلت من طـوْر زمـنـيّ إلى آخـر. أمّـا السّـبب فيـعود إلى الحاجـات الموضوعيّـة التي يفـرضـها الواقـع الاجـتـماعـيّ والإنسـانيّ على كـلّ ثـقافة في أيّ مـرحلـةٍ من مـراحـل التّـطوّر، فيحمـلـها على تغـلـيب مصـدرٍ على غيـره إنْ كـان فيه من مـوردٍ يساعـد في الجـواب عـن تلك الحاجات: فـكـريّـًا أو أدبـيّـًا أو فـنـيّـًا.
قـلنا إنّ التّـفاعُـل الثّـقافـيّ يـؤسِّـس الفـعـلَ الثّـقافـيّ ويـزوِّدهُ طـاقـةً لأنّ مبْـنـى الأخير على الأوّل. لذلك تـتـفاوت درجـاتُ قيـمة الفـعـل الثّـقافـيّ بـتـفـاوت درجـات ذلك التّـفاعـل الذي تـنـخرط فيـه الثّـقافـةُ مع غيـرها الشّـريك فيـه. ولمّـا كان التّـفاعـل الثّـقافـيّ متـراوحَ المـوارد والحصائـل بين تـفاعُـلٍ سلـبيّ يُـكْـتَـفى فيه بالاستـقـبـال والتّـلـقّـي والتّـأثُّـر، وتـفاعُـلٍ إيـجـابـيّ يَـبْـلُـغ عـتبـات الحـوار والتّـثـاقُـف وممارسـةِ الأثـر المعاكـس، كان على الفـعـل الثّـقافـيّ أن يتـحرّك بيـن الحـدّيْـن أيـضـًا. هـذا ما يفـسّـر لماذا قـد تبـدو ثـقـافـةٌ مّـا أدنى من رتبـة الإبـداع ويطـغى عليها الاتّـباع والاجتـرار، فيما تبـدو أخرى أَبْـعَـدَ خَـلْـقـًا وابـتـكارًا وأبـعـدَ أثـرًا في غيـرها؛ ذلك أنّ الأولى لا تُـنـتِـج إلاّ داخل دائـرة ما تَـلـقّـتـه سـلـبًا، أمّـا الثّـانيّـة فجـاوزت حـدّ التّـلقّـي السّـلـبيّ إلى حيث حـاورت غيـرها من الثّـقـافـات، وشـبّـتْ عـن طـوْق التّـلمـذة لبعضها فـنـاظـرتْـه مـنـاظَـرَةَ مَـن يملـك أن يعـطـيَ لا أن يـأخـذ فحسـب. إنّ خـروج ثـقـافـةٍ مّـا - في تـفـاعـلـها مع غيـرها - من لحـظة الـدّونيّـة والارتـفـاع بـقـدْراتـها إلى مـرتبـة النّـدّيّـة وحـدهُ يـرفـع مـن معـدّل الخَـلْـق والتّـأثـير في الفـعـل الثّـقافـيّ.
عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب