التنمية المجتمعية في اقتصاد الهيدروجين

23 يوليو 2022
23 يوليو 2022

يؤكد تقرير التقييم السادس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) لعام 2022، التابعة للأمم المتحدة، والمعنية بتقييم العلوم المتعلقة بتغير المناخ، أن "تغير المناخ تهديد للرفاه وصحة كوكب الأرض، وأي تأخير سوف يفوِّت فرصة وجيزة وسريعة التلاشي لتأمين فرص للعيش الكريم ومستقبل مستدام للجميع"، فتغير المناخ يُنظر إليه على مستوى العالم بالكثير من القلق، بسبب الانبعاثات المتزايدة لغازات الاحتباس الحراري السنوية، والتي تُهدِّد الصحة والحياة الكريمة للإنسان، فقد بلغ متوسط ارتفاعها خلال (2010-2019) إلى (أعلى مستوياتها في تاريخ البشرية) – حسب التقرير -.

ولهذا فإن التقرير عنْون بيانه الصحفي الصادر عن الهيئة بـ (حان وقت العمل. يمكننا خفض الانبعاثات إلى النصف بحلول عام 2030)؛ ذلك لأن فرص التقليل من تلك الانبعاثات متوفرة في القطاعات الحيوية والبيئية كلها، سواء أكان في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والبطاريات وغيرها. وقد شهدت السنوات الأخيرة تزايدا في كفاءة السياسات والقوانين المعزِّزة لاستخدام الطاقة، (وخفض إزالة الغابات)، و(تسريع انتشار الطاقة المتجددة)، ولهذا فإن العمل على التخفيف من آثار تغير المناخ يحتاج إلى تحسين الكفاءة في استخدام الطاقة، و(استخدام أنواع الوقود البديلة مثل الهيدروجين).

في الرابع من أبريل 2022، اعتمدت (195) حكومة عضوا في الهيئة (IPCC) – حسب ما ورد في التقرير نفسه – الملخص المعد لصانعي السياسات بشأن تقرير فريق العمل الثالث التابع للهيئة، المعنون بـ (تغير المناخ 2022. التخفيف من آثار تغير المناخ)، وهو تقرير خاص بتلك الخيارات المتاحة للدول لخفض الانبعاثات، والتقليل من الاحتباسات، التي تمثل خطرا داهما على الحياة البشرية خلال العقود القادمة، ولهذا فإن تلك السياسات التي اتخذتها الحكومات مكِّنت من إجراء تغييرات ليست على المستوى المؤسسي وحسب، بل أيضا على مستوى أنماط حياة الأفراد وسلوكهم، والتي ستُسهم في تحسين صحتهم ورفاهيتهم في المستقبل.

ولأن (الهيدروجين) أصبح من الأولويات العالمية التي يتطلع إليها العالم باعتبارها منقذا للمستقبل، على المستوى الاجتماعي والبيئي والاقتصادي، فإن سلطنة عُمان تُعدُّ من تلك الدول التي أولت أهمية كبرى لاقتصاد الهيدروجين، فلقد شهدنا خلال النهضة الحديثة تطورا كبيرا في مستوى ذلك الاهتمام، ومن خلال العناية السامية للحكومة فإن عُمان من بين الدول المتقدمة على مستوى المنطقة بحسب (المؤشر العالمي لكفاءة التحول نحو الطاقة النظيفة 2021) حيث كانت نسبة التقدم المحرز 55.0 %، وقد جاء في إصدار المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية (الهيدروجين.. كمصدر وناقل للطاقة النظيفة المستدامة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية)، الصادر في فبراير 2022م، أن عُمان والسعودية والإمارات تُصنَّف ضمن المشاريع والاستثمارات الضخمة للهيدروجين ضمن معايير الاستخدام الصناعي، و(مقياس إنتاج الجيجاواط)، وتأتي في المرتبة الثالثة بعد الإمارات والسعودية في (التقدم المحرز لأداء دول مجلس التعاون في مؤشر التنافسية لاستثمار الهيدروجين العالمي 2021م).

وتأتي سلطنة عمان في المرتبة السادسة في قائمة (أكبر عشرين (20) مشروعا تم الإعلان عنها للهيدروجين الأخضر عالميا 2021) – بحسب إصدار المركز –، سواء على مستوى الشراكات الوطنية، أو الشراكات الدولية.

إن هذا الاهتمام الذي توليه الحكومة بهذا القطاع الحيوي المهم، وما تتطلَّع إلى تحقيقه فيه، لا ينبع من الفكر الاقتصادي وحسب، بل يتأسس على العناية الرشيدة بالرفاه الاجتماعي للمجتمع العماني؛ ذلك لأن (الهيدروجين) يرتبط بالتنمية الإنسانية قبل أي شيء آخر، حيث يقوم على أهداف اجتماعية مرتبطة بصحة الأفراد، وتعزيز المستوى الاجتماعي والاقتصادي لحياتهم، وبالتالي رفاههم واستدامة مستقبلهم، إضافة إلى ما يُسهم به في توفير وظائف المستقبل وما ترتبط به من مهارات فنية وإدارية؛ فبالإضافة إلى أهمية الهيدروجين باعتباره أساسا في عمليات (تحوُّل الطاقة) فإنه قادر على (تحقيق 2.5 تريليون دولار أمريكي من الأعمال التجارية، وتوفير أكثر من 30 مليون وظيفة بحلول عام 2050) – بحسب تقرير مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ 2021 (COP23) -.

إن الاهتمام السامي بالهيدروجين ومستقبله في سلطنة عُمان، يُعَّد من بين تلك الأولويات التنموية التي تقوم على التنمية الإنسانية الشاملة، والتي تتطلَّع إلى تحقيق مستويات أفضل للحياة الكريمة لأفراد المجتمع؛ ذلك لأن هذا القطاع يقوم على قدرة الدولة على تأسيس نظام صحي شامل، ومعزِّز للبيئة من ناحية، وداعم لأنماط الحياة والممارسات الاجتماعية التي تقوم على المساهمة في التخفيف من الاحتباسات الحرارية والانبعاثات الضارة من ناحية أخرى؛ فالأنماط الصحية المرتبطة بالحياة اليومية (في الطبخ، والزراعة، والاستخدامات الأخرى)، تتعلَّق مباشرة بقدرتنا على المساهمة في دعم توجهات الدولة في استخدام الطاقات البديلة، والتخفيف من أضرار البيئة.

فالمدن والمناطق الحضرية توفر إمكانات هائلة لخفض الانبعاثات من خلال توفير أماكن خاصة بالمشي وممارسة الرياضة، و(الاعتماد على الكهرباء في وسائل النقل بالاقتران مع مصادر الطاقة المنخفضة الانبعاثات)، وكذلك إعادة استخدام المنتجات وإعادة تدويرها)، و(التقليل من النفايات إلى أدنى حد ممكن)، كما أن (الزراعة) وانتشار الضواحي الخضراء لها تأثير كبير على التخفيف من الانبعاثات، وبالتالي تعزيز التنوع البيولوجي، وتحسين مستوى "التكيف مع تغير المناخ، وتأمين سبل العيش، والغذاء، والماء، وإمدادات الأخشاب" – حسب ما ورد في تقرير (IPCC) -.

يحدثنا تقرير (الهيدروجين الأزرق والأخضر. تطورات محتملة في المنطقة العربية)، الصادر عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الأسكوا)، في الأمم المتحدة، تحت عنوان (الهيدروجين والترابط مع أهداف التنمية المستدامة) عن تلك العلاقة الوثيقة بين الهيدروجين (الأزرق أو الأخضر) المنخفض الكربون وبين التنمية المستدامة للمجتمعات؛ حيث ترتبط العديد من أهداف التنمية المستدامة 2030 بإنتاج الهيدروجين المنخفض الكربون، وإدخال مصادر نظيفة له، فعلى مستوى (تمتع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية)، فإن هذا القطاع له تأثير كبير على صحة الأفراد، لما له من تأثير مباشر على البيئة، كما أن للهيدروجين علاقة أساسية بالمياه العذبة في إنتاجه، فإن تطوير "مصادر مجدية ومستدامة تجاريا لقدرات إضافة لتحلية مياه البحر (لإنتاجه) يمكن أن يزوِّد المجتمعات المحلية أيضا بإمدادات المياه" – حسب التقرير -.

إضافة إلى ذلك فإن إنتاج الهيدروجين المنخفض الكربون واستخدامه على المدى الطويل سيشكل مصدرا (جديدا لتخزين الطاقة النظيفة)، وبالتالي زيادة القدرة على إنتاج الهيدروجين، و(إنشاء أسواق مستدامة وبأسعار معقولة للجميع)، ناهيك عن توفيره فرصا للنمو الاقتصادي وفرص العمل، كما أن للهيدروجين إسهاما كبيرا في قطاع النقل والحد من التلوث الناجم عن حركة المرور، وبالتالي يساعد على (تحسين البيئات المحلية في المدن والمناطق الحضرية)، إضافة إلى ارتباطه بالتخفيف من آثار تغير المناخ وغيرها من القطاعات التنموية التي ترتبط بهذا الاقتصاد التنموي الواعد، والذي يُعد مستقبل الحياة الإنسانية الكريمة.

إن الجهود التي تقدمها الدولة في تنمية اقتصاد الهيدروجين وتطويره، تحتاج إلى دعم ومشاركة من قِبل القطاعات التنموية جميعها، سواء على مستوى المؤسسات أو الأفراد، فكلُّنا مسؤولون عن بيئتنا، وعن صحة أفراد مجتمعنا، ولهذا فإن أنماط حياتنا الصحية ترتبط بقدرتنا على المساهمة في تمتع المجتمع ببيئة خضراء، خالية من التلوث، خالية من النفايات الضارة، قادرة على الاستدامة.

علينا أن لا ننسى أننا نعيش في بيئة واحدة وكوكب واحد، وأن كل ما نقوم به من ممارسات سينعكس على مستقبل حياة أبنائنا.