التكنوقراط ..«واسطة عقد» المجادلات السياسية
هو ليس جدلًا سفسطائيًا أن يتنامى الحديث عن علاقات التشابك والتضاد بين السياسيين والمثقفين؛ وتتداخل اليوم معهم الفئة الثالثة التي يشار إليها بالتكنوقراطيين، وإذا كانت الفئتان السابقتان (السياسة/ الثقافة) هما من شكلا علاقة الجدل طوال القرنين السابقين، فإن لفئة الـ«تكنوقراط» صولتها وجولتها اليوم في ظل معززات علمية وتقنية بالغة الأهمية في الحياة الديمقراطية بمحتواهما: السياسية والتنمية على حد سواء، وإذا حصل أن هناك مقاربةً فلسفيةً بين السياسة والثقافة تحت عباءة السؤال النمطي: من يحكم من؟ فإن للتكنوقراط منهجًا مختلفًا في احتواء الثقافة، وعقد صفقة رابحة مع السياسة، وذلك أن جل المشكلات والقضايا العالقة اليوم في الحياة لن تنفقها الثقافة بتنظيراتها، ولن تحسمها السياسة بمواقفها، إذن والحالة كذلك فعلى التكنوقراطية أن تكون واسطة العقد لاستلام الدور في حلها، من خلال من تملكه من أدوات «مشرط الطبيب» في استئصال الداء، خاصة وأن جل القضايا اليوم تتحرر من محليتها الصرفة، ووصولها إلى مرحلة التدويل بفعل علاقات التشابك الدولية،
يذهب التقييم؛ في أن ماهية التكنوقراطية على أنها الحل الأمثل لحماية النظام السياسي، أو الدولة من السقوط تحت براثن أصحاب المصالح الذين يتوغلون في العادة لتعظيم مكاسبهم على حسابات الأوطان واستحقاقاتها من برامج التنمية، قد يكون هذا التقييم حديثًا قياسًا بتجربة التكنوقراطيين في الديمقراطيات الناشئة التي يمثلون فيها نسبًا معقولةً، وإن لم يأتوا عبر صناديق الاقتراع المباشر، التي هي حتى اليوم (أي هذه الصناديق) لم تستطع أن تفرز مستحقًا معقولًا يمكن الاتكاء عليه، على أن هناك تغيرًا نوعيًا لدى وعي الناخب، من أن التكنوقراطيين عندهم الحل لكثير من المشكلات في أبعادها التنموية الرئيسية: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وفي الوقت نفسه هناك شبه صدمة لدى الجمهور لعدد من الصور التي تنبئ بأن الصورة الحالمة المتوخاة من التكنوقراطيين لم تكن بذلك القدر من الطموح؛ لأن جملة من الحقائب الوزارية التي تولاها هؤلاء التكنوقراطيون لم تكن بتلك الفاعلية المتوقعة، أو أنهم غيروا مسارات تخصصاتهم المهنية وما يفترض أنها على قدر كبير من المعرفة؛ في ذات المجال، واستعذبوا المجال الإداري البحت الذي غربهم عن حقيقتهم المهنية كـ «تكنوقراط» وهذا التغريب وضعهم في حرج شديد من قبل الجمهور، إذ أعاد هذا الجمهور التقييم، فكانت النتيجة في غير صالح التكنوقراطيين، وهذه مثلمة كبيرة في حقهم، وتحتاج منهم الكثير من الجهد حتى يتجاوزوها للخروج من النفق المظلم، ولذلك خرجت أصوات تنادي بـأن «دعوا السياسة للسياسيين؛ وليبق أصحاب التخصصات في مختبراتهم» وهذا القول فيه مبالغة، وتجاوز للفهم العام؛ لأن التنمية ليست سياسة فقط، وإنما هي مزيج بين السياسة والمختبر، إذا سلمنا بمنطق أن السياسة تنظير أو موقف، أكثر منه عمل ميداني يحتاج إلى القوى الفاعلة للمساهمة فيه، وبمعنى آخر أن هذا التنظير أو الموقف؛ هو في الوقت نفسه؛ يحتاج إلى كثير من عمل التكنوقراطيين حتى يعزز موقفه، ويقوي من شوكته في مواجهة خصومه السياسيين، فالمشكلات في أبعادها الرئيسية لا يكفي تقييمها بالتنظير، حيث تحتاج إلى كثير من الدراسات والبحوث العلمية للوقوف على تفاصيلها الدقيقة، وإخراج المخبوء؛ ليكون الحكم عليها واضحًا، ومفصلًا، لا يحتمل أي طرف ثالث ليقول فيه كلمته الفصل، ويؤكد الباحث هاشم سليماني باحث في الشأن المغاربي من خلال مقاربته في الرؤية والتقييم لذات الفكرة بقوله: «فحسب دافيد أيستلاند، يمثل تعاظم نفوذ الخبراء أو التكنوقراط خطرًا باعتباره يمنحهم تدريجيًا حصريّة التفكير؛ ما يهدّد بنشوء نخبة جديدة تحتكر إنتاج الأفكار والمعرفة ثم السلطة في إقصاء تام لباقي الشعب من دوائر الفعل الحقيقي في الساحة السياسية وهو ما يتعارض مع جوهر الديمقراطية (...) ويضيف: «ومهما اختلفت المقاربات السياسية وأشكال التأثير في النقاش العام، من المهم التأكيد على أننا إزاء نقلة نوعية يشهدها عالم الأفكار السياسية، في السابق وخلال حقبة الحرب الباردة، استأثر المُثقفون بالشأن العام وخاصة الفلاسفة والمؤرخون الذين انحصرت مهمتهم في تقديم تصورات عامة إما اشتراكية أو ليبرالية حول السياسة والتطور؛ أما اليوم، فيشهد المثقف منافسة من الباحث أو الخبير التقني وخاصة الباحث الاجتماعي والخبير الاقتصادي حول امتلاك المعرفة والحقيقة»- انتهى النص – وذلك حسب: https://www.noonpost.com/content/7462 في تجارب سياسية دولية لم يستطع التكنوقراط -حتى الآن- من إحداث ثقب للنفاذ إلى رحاب الممارسة السياسية في تلك الدول، وهذا مما يرفع التكهن بأن على التكنوقراطيين بذل الكثير من الجهد للوصول إلى تحقيق هذا الطموح، وخاصة في الأنظمة الشمولية التي تتجاذبها الكثير من القوى الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، حيث تتموضع على مكتسبات ظلت -ولا تزال- ردحًا من الزمن، تغذي بقاءها، وأعمارها، ومثل هذا الواقع لن يكون يسيرًا لـ»التكنوقراط» تجاوزه بسهولة، حيث يحتاج إلى كثير من استحقاقات الوعي لدى الأجيال لتنتقل من حالتها الراكدة، إلى حالتها الحركية الفاعلة، وهي الحالة التي تستصوب الأخذ بالجديد، وما يتطلبه الواقع من تحديث، وما يفرضه الواقع من تحديات؛ خاصة؛ في هذه الأزمان المتأخرة التي تمثل فيها التقنية حركة حياتها الأصيلة، وتسجل بهذه التقنية الكثير من الإنجازات الصادمة للعقل البشري.
يلاحظ أن في الانتخابات التشريعية لا يحظى التكنوقراطيون بالكثير من الشعبية، ولذلك يكون تمثيلهم ضئيل في المؤسسة التشريعية؛ قياسا بالفئات الأخرى التي تحظى بتمثيل واسع، ويذهب التفسير هنا أكثر، أن التكنوقراطيين لا يسعون إلى العمل على تكوين مؤازرات وشعبيات كثيرة، فهم ينتصرون أكثر على التخصص الذي يمارسونه، ويرون فيه المنقذ للكثير من قضايا المجتمع، وبالتالي لا يهم ما يكون خارج دائرة الاهتمام الشعبي في الدوائر الانتخابية هذه، فذاته متحققة، ومكانته موجودة؛ ومعنى هذا أن السواد الأعظم من الناس يؤخذون بالعواطف -كما يرى بعض المنظرين- والتكنوقراطيين غير متفرغين لبث العواطف لجمع أكبر عدد من الأصوات، ولكن هذا لا يعني أنهم غير مشغولين بهموم الشارع، ورغبتهم في تجسير الهوية بين الحكومات والشعوب، والأهم من ذلك حرصهم على إيجاد الحلول التقنية الذكية للكثير من المشكلات التي تعاني منها التنمية في بلدانهم، على الرغم من أن هناك من يرى أن توغل التكنوقراطيين في المؤسسة التشريعية، ومن ثم في النظام السياسي فيه «تهديد للديمقراطية التمثيلية»مع الاعتراف بتضاؤل الدور الذي تقوم به الكثير من فئات المجتمع المعتمدة على الفئوية في هذا التمثيل، حيث إنها لم تأت عن كفاءة، بقدر ما أتت عن مجاملات، واستحقاقات قبلية، وعشائرية، ومذهبية، وعرقية وهذه؛ وفق تقييم المنطق؛ هي عبء أكثر منه إضافة نوعية في مسيرة الديمقراطية بوجه عام، وفي التحقق التنموي بوجه خاص، ومع ذلك – وكما يرى الباحث حيدر مثنى محمد المعتصم؛ من العراق؛ في دراسته (قوة السلطة التشريعية) – أن للتكنوقراطيين دورا في عملية صنع القرار؛ يقول: «فيما يخص القوى الفاعلة في معظم بلدان العالم نجد إضافة إلى أعضاء السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، أن هناك ممثلي الجماعات الضاغطة التي تسعى للضغط على صانعي القرار بصورة أو بأخرى من أجل تحقيق مصالح الأعضاء المنتمين إليها. وهناك أيضًا الأحزاب السياسية الفاعلة في النظام السياسي غير تلك الممثلة في البرلمان، إضافة إلى كبار رجال الإدارة من التكنوقراط. فكل هذه الجهات لها دور حيوي سواء كبر أو صغر في عملية صنع القرار»-انتهى النص-.